الفساد السياسي في عصر الرأسماليّة عبرـ القُطريّة: نظرة ماركسيّة (ج 1)

ترجمة – خاصّ – اقتصاد سياسي – تحليلات

مقال : بيتر براتسيس

ترجمة: ابراهيم حمزة

الرابط الأصلي للمقال

دراسة أشكال ووظائف كيفيّة فهم الفساد السياسي داخل المجتمعات الرأسماليّة هو ميدان تمّ إهماله داخل الماركسية. لا تحصى الدراسات حول آثار الرأسماليّة من تحفيز على فساد وتأثير للمصالح الإقتصاديّة على السياسة، لكن لم يتجلّ بعد فهم ماركسي هيكلي أو متماسك للفساد السياسي في حدّ ذاته. ذلك يعني أنّ النظريّة السياسيّة الماركسيّة إن كانت جدّ بارعة في كشف وظائف الآليات التي تدّعي الحياد والإنصاف وانحيازاتها الطبقيّة داخل الدولة البرجوازيّة، فإن وظيفة ودلالة كيفيّة إدراك الفساد وتعديله داخل المجتمعات الرأسماليّة لم تحظ إلا بالقليل من الاهتمام.

في عمل سابق كنت قد بيّنت أنّ صعود الرأسماليّة قد أفرز فهما جديدا للفساد السياسي. الفهم التقليدي للفساد على أنه الإضمحلال والإنهيار الذي يشترك فيه مفكرون من أرسطو إلى ماكيافيلي تمّ تجاوزه واعتبار أنّه ليس في محلّه. الفهم الجديد للفساد صار الأساس في الكيفيّة التي تحدّد بها المجتمعات الرأسماليّة ما يمثل تمظهرا عاديا وما يمثل تمظهرا مَرَضيّا لمصالح خاصة في الساحة السياسية. عندما تكون السياسة كلّها متمثلة في صراع مصالح، الطريقة الوحيدة للمحافظة على وهم “مصلحة عامة” كونيّة هي التفرقة بين تمظهرات عاديّة وأخرى مرضيّة للمصالح الخاصة داخل الحياة السياسيّة. الحضور الشامل للمصالح الخاصة داخل الحياة العامة لا يمكن رؤيته كفساد، فقط بعض أشكاله تعتبر فساد، وبذلك أغلب تواجد الخاص ضمن العام مُطَبَعٌ. على هذا قيل أنّ مشكلة الفساد متأصّلة في صعود الدولة الوطنيّة ومسألة الحفاظ على الشرعيّة وتنظيم المجتمع في إطار بابَيْن: العام والخاص.

مغزى هذه المقالة ليس تكرار هاته النقاشات السابقة بل تمديدها للحديث عن التطورات الجديدة داخل الرأسمالية وكيفيّة فهم الفساد السياسي. هاته الإستقراءات السابقة توحي بأن المفهوم البرجوازي للفساد كان لحظة مفصليّة في الديناميكيّات الداخليّة للدولة الرأسماليّة؛ الفساد كان بالأساس مسألة داخليّة. من وجهة النظر هذه، لا يمكن أن نرى لأي سبب يمكن أن تهتمّ الوكالات العالميّة بمسألة الفساد أو أن نتوقع أن يلعب الفساد دورا مفصليّا في العلاقات الدوليّة. في تناقض صارخ مع هاته التوقعات، نجد أنّ الفساد، زيادة على استمرار أهميّته الداخليّة للدول الوطنيّة، قد أصبح أكثر فأكثر موضوعا أساسيا داخل المجتمع الدولي. في العشرين سنة الأخيرة أصبح الفساد السياسي واحدا من أكثر المواضيع مركزيّة في تناول المنظمات والفاعلين الدوليين.

مغزى هذه المقالة هو ملامسة هذا التحول لمحاولة فهم دلالة تدويل مسألة الفساد. ستبيّن هذه المقالة أنّ هذا التركيز الدولي الجديد لا يمثل تفريطا في الطرق التي تشتغل بها الأفكار والقوانين المتعلقة بالفساد لإعادة إنتاج التقسيم الاجتماعي للخاص والعام. على العكس هو يعني إضافة وتركيبًا أكثر في كيفيّة فهم الفساد. أصبح الفساد الآن يعني، إضافة إلى مفاهيمه السابقة التي أشرنا إليها، نقصًا في الشفافيّة.

سنُبيّن أنّه يمكن فهم هذا المعنى الجديد للفساد كنتاج لعاملين مترابطين بشدّة. أولا، هذا الفهم الدولي الجديد للفساد على أنّه العَتَامَة (عدم الشفافيّة) هو تكتيك يستعمله الرأسمال عبرـ القُطري في مساعيه لتقليص التكاليف ولحساب المصاريف والأرباح بأكثر دقّة عند اتخاذ قرارات الإستثمار. هذا التكتيك هو جزء من الإستراتيجية الأشمل التي تتمثل في جعل بيروقراطيّات الدولة أكثر فأكثر استقلاليّة عن المصالح والنخب المحليّة، وبذلك أكثر تِرْحابًا بالرأسمال عبرـ القطري، وبالتالي جعل سياسات وإجراءات الدولة معروفة مسبقا وشفافة للأجانب.

مقتبسين من أدبيات اقتصاديّة فتيّة حول الفساد بمفهوميْ العتامة والسعي لتحصيل رَيْعٍ، ومشجّعين تطوّر هاته الأدبيّات، عمّم الفاعلون في الرأسمال عبرـ القطري وأيّدوا بنشاط فهمًا جديدا للفساد في محاولة للمُضيِّ قُدما نحو هدف رأسماليّة عالميّة بأقلّ ما يمكن من القيود والعراقيل السياسيّة لمجاريها. في المعجم الماركسي، يرمي السعي الدولي لمكافحة الفساد إلى تأسيس وتعميق عولمة الدول الرأسماليّة وتوسيع الاستقلاليّة النسبيّة للأخيرة تجاه المصالح الخاصّة الموجودة داخل مجتمعاتها الوطنيّة.

ثانيا، هذا التدويل لمسألة الفساد يشتغل كأحدث تكرار لوجهة النظر الإستعماريّة. التركيز على الفساد وظيفته تفسير الفوارق العالميّة في الثراء والتنمية على أنّها في أغلبها نتاج لدونيّة الثقافات والمعايير الإيتيقيّة والأطر السياسيّة والقانونيّة لتلك البلدان والمناطق من العالم المحرومة اقتصاديا. وبذلك فهو يعمل أيضا كتبرير مِقْياسي للهيمنة السياسة والإقتصاديّة التي تتمتع بها الدول “المتقدمة” في قلب الرأسماليّة العالميّة. باختصار، سيتبيّن أن التحليل الماركسي لتغيّر مفهوم الفساد في المجتمعات الرأسماليّة هو عنصر هام في فهم الكثير ممّا يتعلق بالتمشّي الحالي المتجّه نحو الحوكمة والتكنوقراطيّة التي أصبحت خاصيّة متفشّية في الدول تحت الرأسماليّة المعاصرة. وأيضا الأخلاقويّة المتصاعدة التي تفصل وتقابل بين مجتمعات المركز الرأسمالي والمجتمعات المحيطة به والبعيدة عنه.

المنعرج

أُسِست منظمة الشفافيّة العالميّة، وهي ذات تأثير كبير، سنة 1993. في نفس السنة أطلقت كلّ من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية والبنك العالمي ومعهد المجتمع المفتوح والأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون الإقتصادي والتنمية وغيرها من المؤسّسات حملات لمكافحة الفساد. معوّلة على تمويلات من عدّة شركات ومتبنّية الحَوْكمة الشفافة وفكرة مجتمع مدني قويّ، بدأت هاته المنظمات بالدفع نحو تغيير ثقافي وقانوني حول العالم. حركة مكافحة الفساد هاته تجذّرت بسرعة إلى درجة أنّ صحيفة الفاينانشال تايمز أعلنت سنة 1995 “سنة [مكافحة] الفساد”.

أن يصبح الفساد فجأة مسألة مركزيّة لهاته المنظمات والمصالح التي تمثلها هو تحوّل ذو دلالة هامّة مقارنة بما كان عليه الأمر سابقا. هذا منعرج يثير الفضول، لأنّ مسألة الفساد كانت في الماضي مسألة محليّة قطعًا أو على الأقلّ أكثر أهميّة بالنسبة للأنظمة السياسيّة الوطنيّة وشعوبها مقارنة بمن هم خارج ذلك السياق الوطني. وفعلا منذ سجن فرانسيس بيكون بتهمة الفساد سنة 1621 إلى تسعينات القرن الماضي كان الفساد، تقريبا، مسألة داخلية حصرًا.

هذا الإهتمام المفاجئ للمؤسّسات والفاعلين العالميّين بالفساد محيّر لسبب آخر أيضا. الأمر ليس فقط أنّ مسألة الفساد أصبحت دوليّة بل أنّه زيادة على ذلك فإنّ وكلاء رأس المال (الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية وصندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون الإقتصادي والتنمية والبنك العالمي وغيرها) هم من قادوا هذا التحوّل. من وجهة نظر الفهم التقليدي للفساد على أنّه ضرب للمصلحة العامّة من قبل مصالح خاصّة، لا يبدو أنّ هناك حوافز لشركات بعينها أو للوكلاء الدوليّين للمال والتجارة أن يحاربوا الدور الذي غالبًا ما تلعبه مصالحهم في السياسة.

في الحقيقة، لا يستهدف تيّار مكافحة الفساد الكثير ممّا نتخيّله عندما نتحدث عن الفساد“. لن نكون مخطئين إن ادّعينا أنّ حركة مكافحة الفساد عبرـ القُطريّة تهتمّ أساسًا بالفساد البيروقراطي لا بالفساد السياسي. عادة ما يتجاهل المرء في الأدبيّات حول الفساد التفرقة بين الفساديْن السياسي والبيروقراطي. رغم أنّه عادة ما يتم تناول هذه التفرقة كمسألة درجات الّا أنّ لها دلالة أعمق.

يتمثّل الفساد البيروقراطي في الإخلالات بمبدأ الحِياد في تنفيذ وتطبيق السياسات والقوانين من قبل موظفي الدولة، مثل الشرطة أو مصالح جمع الضرائب،من خلال رشاوي أو لاعتبارات أخرى (حزبيّة أو عروشيّة أو عائليّة). لا يجب تمييز هذا النوع من الفساد عبر حجم المصالح التي يتمّ تبادلها من خلاله، بل لأنّه يتعلّق بتطبيق القوانين والسياسات لا بوضعها. ولأنّه يحدث في نقطة التقاطع التي تلتقي فيها، بصفة غالبا ما تكون مباشرة، مؤسّسات الدولة بالمواطنين. على العكس من ذلك، يشمل الفساد السياسي التدخّلات الخاصّة في عمليّة اتخاذ القرار السياسي، سواءٌ كان ذلك عبر الرشوة أو اغراءات أخرى أو من خلال القِمم التي تُتخذ فيها القرارات محجوبة عن أعين المواطنين العاديين.

فرق أساسيّ آخر هو أن البيروقراطيين لديهم عادة هامش ضيّق جدّا للتصرف في تطبيق القانون بينما تكون الأُطُر التي تُقًيّد الفاعلين السياسيين، فيما يتعلّق بمحتوى التشريعات، ضئيلة إن وُجدت. بالنسبة للفاعليين السياسيين، كلّ ما لا يصل إلى رشاوي مباشرة هو أمر جائز. إذن فمن الأسهل تنظيم ومراقبة موظفي الدولة.

يزيح التركيز على الفساد البيروقراطي أيّ محاولة جديّة لتقديم إشكاليّة الفساد السياسي كتدخّل للمصالح الخاصّة في عمليّة وضع السياسات؛ وهذه خاصيّة تحاكي طريقة طرح مسألة الفساد على المستوى الوطني. بالتركيز على مشكلة الفساد البيروقراطي، صنعت بعض الدول الوطنيّة إحساسا بأنّها نظيفة جدّا وغير فاسدة وذلك بجعل مواطنيها يشعرون أنّ الدولة تعاملهم بحياد. يمكن تنظيم الدواليب البيروقراطيّة وتدريب الموظفين العموميين لتقليص انزياحهم عن متطلّبات مناصبهم، لكن فيما يتعلق بصنّاع القرار كانوا بيروقراطيين سامين أو مسؤولين منتخبين فمن المستحيل مراقبة الحوافز وصراعات المصالح التي تقوم عليها العمليّة السياسيّة؛ لا يمكن حظر تدخّل الخاصّ في عمليّة تكوين السياسات وإزالته بصفة فعليّة. على سبيل المثال، المنظومة البيروقراطيّة المحترفة عامل أساسي للشعور أنّ الدولة البريطانيّة تتعامل مع مواطنيها على حدّ سواء وأنّها نظيفة نسبيا وغير فاسدة رغم الدور المباشر وعادة الحاسم الذي يلعبه الفاعلون في بورصة لندن والعديد من المصالح التجاريّة الأخرى في تقرير سياسات بريطانيا. ومن غير المفاجئ أنّ منظمة الشفافيّة العالميّة وشركتيْ إيكسون وشل وصندوق النقد الدولي لا تبدو قلقة جدّا فيما يتعلّق بدور المصالح الخاصّة، خاصّة مصالحها، في عمليّة صنع السياسات. وهي بالطبع لا تهدف إلى مناهضة تأثير القوى الإقتصاديّة على السياسة.

العتامة والعولمة والإستقلاليّة النسبيّة للدولة

مثلما توحي به تسمية منظمة الشفافيّة العالميّة، لا تركّز هاته المنظمات على تدخّل الخاصّ في العامّ بل تهدف فقط إلى إزالة العاتم. من هذا المنظور، تبدو المشكلة التي تطرحها ظواهر مثل الرشوة والزبونيّة في أنّها تسويات غير رسميّة عاتمة ولا يمكن التنبؤ بها مسبقا. يخلق هذا الفسادمشكلتين متصلتين للرأسمال عبرالقُطري: يمنعه من جملة من المعطيات الأساسيّة التي يحتاجها لحسابات التكاليف والأرباح لاتخاذ قرارات الإستثمار ويزيد في الكلفة المعلوماتيّة للمعاملات. ومن اللافت أنّ أحد أهمّ مقاييس الفساد هو “مؤشّر العتامة” ، والذي يحاول احتساب تكاليف الظواهر المرتبطة بهذا المفهوم الجديد للفساد مثل الدُفوعات غير الرسميّة، القوانين الغير واضحة وتأوليلاتها وتطبيقاتها الغير محايدة. على سبيل المثال، حسب النسخة الأصليّة لسنة 2001 لهذا المؤشر تكاليف العتامة بالنسبة للإستثمارات الأجنبيّة المباشرة في الصين تضاهي ضريبة بـ 46%.

ما سبق يشير إلى عنصر أساسي في اشكال الحوكمة المعاصرة، هو العقلانيّة الأداتيّة. سيُنيرُنا الإستئناس بتقسيم ماكس فيبر الشهير للسلطة المثاليّة إلى ثلاث أنواع: كاريزميّة، تقليديّة وقانونيّةـعقلانيّة. كلّ منها يتميّز بالسبب الذي يجعل شخصا ما يطيع أوامرها. بكلّ بساطة، بالنسبة للسلطة الكاريزميّة الطاعة متأتية من استجابة تلقائيّة للشخص الذي يعطي الأوامر وبالنسبة للسلطة التقليديّة تتم الإستجابة للأوامر على أساس العُرف وبالنسبة للسلطة القانونيّةـالعقلانيّة على أساس حساب عقلاني. العقلانيّة تشير إلى حساب تكاليف/منافع يشتغل كأساس للفعل، أي أنّ شخصا ما سيطيع أمرا أو قانونا لأنّه يعتبر أنّ ذلك من مصلحته، اذ تفوق منافعه تكلفته. حتى تكون مثل هذه العقلانية الأداتية ممكنة يجب أن يتمكن المرء من كَيْل التكاليف والمنافع. العقلانية الأداتية تفترض القانون وتأويلا وتفعيلا منسجمين للتشريعات من خلال منظومة بيروقراطيّة. مثلا إن لم تكن تعرف عقوبة إيواء سيارة بمكان غير قانوني من المستحيل في أغلب الحالات أن تتخذ قرارًا عقلانيًا في احترام قانون الإيواء من عدمه نظرا لأن تكاليف ذلك القرار لا يمكن توقعها. الفارق بين غرامة بإثنين، بعشرين، بخمسين، بمائة يورو سيكون هامّا ويجب معرفة ذلك والقدرة على توقعه حتى يكون العقل الأداتي ممكنا.

وبالتالي فإنّ هذا الدفع تجاه الشفافيّة يمكن فهمه على أنّه سعي لتأمين الشروط اللازمة للعقل الأداتي. تتبّع الشركات الرأسماليّة منطق تعظيم النفع وتنتهج معاملات تفوق فيها المداخيل التكاليف. فيما يتعلق بالدولة وتراتيبها، يستند رأس المال إلى وجود القانون والبيروقراطيّة حتى يتمكن من اتخاذ قرارات عقلانية في علاقة بالإستثمارات. نقص الفسادمن هذا المنطلق يساوي وضوح القوانين والتوقعيّة (القابلية للتوقع). عمل منظمة الشفافية العالمية والمنظمات المماثلة يبلور التدابير التي يتخذها رأس المال وخادموه في سبيل تأمين الشروط اللازمة للعقل الأداتي. الحاجة إلى التوقعيّة تتطلب أن تكون أشكال الدولة على أكثر ما يمكن من البيروقراطيّة وأن توضع القوانين مكتوبة بوضوح وتتطبق بانسجام. كلّ التسويات غير الرسميّة والقوانين المُربكة وتطبيقها غير المنسجم تصير موصومة على أنها عاتمة/فاسدة.

فعلا، خلَق هذا الدفع الدولي نحو التوقعيّة وتقليص العتامة قطاعا خاصا مزدهرا. تزوّد سابقة الذكر برايس ووتر هاوس كوبرز ووكالات أخرى عديدة، مثل قلوبال إينسايت والبنك الآسيوي للتنمية، المستثمرين بمعلومات وقياسات قصد بلورة مخاطر وتكاليف، يمكن أن تكون مُعَتَمة، متعلقة بالإستثمارات حول العالم. تُعقد بصفة دوريّة ندوات للشركات عبرـ القطريّة والمستثمرين وقطاع الخدمات الماليّة للمضيّ قدما بأجندة مكافحة الفساد والإطلاع على قياسات العتامة وآخر المساعي في مكافحة الفساد. الإيتيكال كوربورايشن، وهي شركة ربحيّة، تنظم سنويّا “قمّة أوروبيّة لمكافحة الفساد” هدفها المعلن إرشاد المشاركين حول “كيفيّة القيام بمشاريع مع الحدّ من مخاطر الفساد”. من بين المحاضرين سنة 2010 نجد ممثلين عن بابسون كابتال وصندوق الإستثمار الأوروبي وسيمنز ومجموعة البنك التجاري الكيني وبوينغ ووزارة العدل الأمريكية. تراوحت معاليم التسجيل بين 1345 و2295 جنيه استرليني (حسب عدد فرص تدعيم شبكة العلاقات) للشخص إضافة إلى الأداء على القيمة المضافة.

في عصر العولمة أعلن الرأسمال عبر القُطري هيمنته، ونحن نشهد محاولته رسم وتغيير أشكال الدولة حول العالم. هاته الفئة من الرأسمال تبني جزءا معتبرا من هيمنتها السياسية عبر القيادة الفكريّة والأخلاقيّة. لا شكّ أنّ أحد أهمّ الإنجازات الفكريّة لهاته الحركة هو استحداث ونشر هذا المفهوم الجديد للفساد على أنّه العتامة. اذ لا يتمّ وضه مبدآ الشفافية والحوكمة الرشيدةمحلّ سؤال وتشكيك اليوم. حتّى أدنى ما يكون من التساؤل النقدي البديهي يبقى غائبا. في النهاية، لمن هاته الشفافية؟ هل تقوم منظمة الشفافيّة العالميّة بحملات توعية حتّى يتمكن المواطنون العاديون من فهم ما تفعله وتقوله حكوماتهم؟ حتى يتمكنوا من قراءة الصحف والوثائق الحكومية؟ لا إطلاقا. الشفافية والعتامة هما دائما من وجهة نظر رواد الأعمال والتكنوقراط. حتى قياسات الشعور بالفساد التي تستعملها منظمة الشفافية العالمية وغيرها تعتمد حصريا على أصحاب المشاريع والجامعيين و”خبراء” أجانب أو إقليميين. هي شهادة نجاح لمنظمة التعاون الإقتصادي والتنمية والبنك العالمي ومنظمات مماثلة أن تُعتمد وجهة نظر الرأسمال عبرـ القطري كوجهة النظر التي تُقيََم من خلالها شفافية/عتامة المؤسسات السياسية والأنظمة.

على ضوء النقطة السابقة، لن نتفاجأ إذا علمنا أنّ سياسة مكافحة الفساد الجديدة هذه قد بدأت تتكون من أول التسعينات فصاعدا. زاد إنهيار [المعسكر الاشتراكي] وصعود العولمة في الرهانات بالنسبة للرأسمال عبرـ القطري وفي نفس الوقت أزالا أحد أهم الحواجز التي تعترضه. كان لصراع الجزأين المحلي وعبرـ القطري للرأسمال من أجل الهيمنة السياسية داخل التشكيلات الاجتماعية حول العالم بُعدًا طبقيا مركزيا وذي تأثير واسع في هذا المنعرج الدولي. ففي هذه المجتمعات الوطنية نجد العديد من الأشكال المؤسساتية والتقاليد السياسية، نُحتت عبر أجيال من الصراعات والنزاعات والتنازلات والإتفاقات. كجزء من هذه التقاليد الوطنية والجهوية نجد داخل المؤسسات العديد من العلاقات التي تربط النخب المحلية بحلفائها من الطبقات الشعبية. إلا أنه ممّا لا شك فيه أنّ أيّ شيء يمكن أن يشبه برجوازية أو رأسمالية “وطنية” صار من الماضي منذ زمن طويل. فمن الصحيح أيضا أن الدولة مازالت نتاجًا لصراعات واستراتيجيات ذات صبغة وطنية. الحالات التي تكون فيها سلطة الدولة متصلة مباشرة بتقلبات المصالح والصراعات المحلية تمثل مشاكل بليغة للرأسمالية بمعناها الأشمل وللرأسمال عبرـ القطري خاصة، وذلك نظرا لضعف استقلالية الدولة في علاقة بطلبات بعض رؤوس الأموال بعينها أو غيرهم من ذوي الإمتيازات السياسية.

يساعد الدفع نحو “الشفافية”، والإستراتيجيات والإصلاحات الوطنية المتنوعة التي يولّدها، على توسيع وتكريس الإستقلالية النسبية للدولة. مثلما فسّر ذلك بولنتزاس (1973)، الإستقلالية النسبية ضرورية للدولة الرأسمالية حيث يمكن أن تجد نفسها في موقف يتطلب أن تتخذ إجراءات معادية لإرادة بعض الرأسماليين الساعين لخدمة مصالحهم الجماعية أو الطبقية. إذن مشكلة النومونكلاتورا في الصين وفيتنام، والزبونية في اليونان وغانا، والشعبوية1 في فنزويلا وبوليفيا هي الطريقة الخالية من الوساطة (أي المباشرة) التي تكون من خلالها المصالح الإجتماعية حاضرة في مؤسّسات الدولة. تكاليف “العتامة” الناتجة على مثل هاته التسويات واضحة، الكثير من التطاير2 المحتمل فيما يتعلق بتكوين السياسات وعدم الحياد فيما يتعلق بالتطبيق والتنفيذ. أجهزة الدولة متصلة بمصالح أفراد ومجموعات حتى أنه يمكن لأي تغيير للفريق الماسك بالدولة أن يتسبب في تحولات مثيرة، حسنة أو سيئة لمصالح الأعمال وأيضا للمواطنين العاديين، لكن من الصعب التكهن بها وحسابها في كلتا الحالتين.

إذا تجاوزنا مسألة المخاطر والقياسات وتكاليف العتامة هنالك مسألة أكثر أهمية فيما يخص نوعية المصالح القادرة على أن يكون لها تأثير داخل هذه المنظومة المؤسساتية. مع ازدياد أهميته في عصر العولمة، لم يعد الرأسمال عبرـ القطري يريد مهادنة المصالح والمطالب المحلية. وبالتالي فهو يدفع نحو هياكل مؤسساتية مرتبطة بالحوكمة التكنوقراطية وقادرة أن تتخذ إجراءات معادية للمطالب الشعبية وميولات العديد من النخب المحلية. ويطالب بوساطات مؤسساتية أكبر وأصلب بين أصحاب السلطة المحليين والسياسات الجبائية والنقدية (خاصة وليس حصرا) وتطبيقها.لعل أفضل مثال للعملية التي نتحدث عنها، أي تكييف الدولة والأشكال المؤسساتية التي تتوسط للمصالح، هو صعود الإتحاد الأوروبي. بتحويل أهم وظائف صنع القرار إلى أعلى المستويات المؤسساتية، لا فقط خارج هياكل مجموعات المصالح المحلية بل أيضا خارج أي سيطرة أو مراقبة مباشرة من قبل المسؤولين المنتخبين، قام الإتحاد الأوروبي بزيادة الإستقلالية النسبية للدول المكونة له عن مطالب رأس المال ذو الحدود الوطنية. بعدٌ لا يقل أهمية لهذه العملية يتمثل في الفضاءات المؤسساتية الجديدة التي تنشأ وتشتغل كميدان للأطراف عبرـ القطرية في رأس المال ومصالح كبرى أخرى يتم فيه الصراع لتشكيل إستراتيجيات متماسكة للمراكمة والتعديل. من الوارد جدا أنّ رفع الدعم الفلاحي وبيع أغلب الشركات التابعة للدولة (من مرافق وشركات نقل) على سبيل المثال لم يكن ليحصل في غياب هاته الوساطات المؤسساتية الجديدة وارتفاع قدرة الدول الوطنية على اتخاذ إجراءات مناقضة لمصالح محلية مكتسبة. وليس من قليل الأهمية أن نعرف أن الجهات الرأسمالية الكبيرة كفاية لاستغلال هذه التغيرات هي حتما عبرـ قطرية.

تستهدف مساعي مكافحة الفساد العالمية الزبونية والشعبوية وغيرها من أشكال تمفصل المصالح بطرق تقلل من الوساطات المؤسساتية. اذ تمثّل هذه المشاريع محاولات مباشرة لتأمين وتشكيل الإستقلالية النسبية للدولة. يعطينا حراك مناهضة الفساد مثالا شديد الوضوح عن الطريقة التي تُخلَق بها الإستقلالية النسبية للدولة في الظرف السياسي الراهن؛ وأتمّ بشرطة مكافحة الشغب، والعداوات والمعارك التشريعية، ومخططات التقشف والخوصصة والتهديدات بعقوبات مالية وتجارية. إضافة إلى ذلك فهو يبيّن لنا لماذا عوض أن تضعف قوّة الدولة في عديد البلدان أو تقلّ أهميتها، يمكن أن نقول أنّ إمكانياتها تزداد، وأيضا النزعات البيروقراطية والتكنوقراطية في عصر العولمة.

هنا يمكن أن نرى كيف تصبح الرأسمالية عالمية، بكونها تصبح عبرـ قطرية. إحدى أهم حجج بولنتزاس حول مسألة التدويل كانت أن الرأسمالية لا يمكن أن تمتد إلّا عبر عملية صيرورتها عبرـ القطرية؛ أي عبر عملية إعادة إنتاج المصفوفة المكانية والزمانية اللازمة ليكون الإستغلال الرأسمالي ممكننا. ويقول في ذلك:
“… الإمبريالية من جوهر الدولة الحديثة. بمعنى أنها لا يمكن أن تكون إلا استبطانًا، أو بالأحرى عبور-أقطار، لعمليتيّْ العمل ورأس المال… ولأنه يتحرك في مصفوفة مكانية عالمية لعمليتي العمل والإستغلال، فلا يمكن لرأس المال إعادة إنتاج نفسه إلا بأن يصير عبرـ قطري، مهما بدت أشكاله المتنوعة غير مرتبطة بمنطقة وغيرـ قطرية.”i

بلغة أخرى، بالرغم من الفصل الشكلي للصراعين الإقتصادي والسياسي كلحظة مؤسسة للدولة الرأسمالية، إلى جانب الإستقلالية النسبية للمؤسسات وترسانة كاملة من الإفتراضات المسبقة الأساسية الأخرى السياسة والقانونية التي نشأت عليها الرأسمالية مثلما نعرفها، لا يمكن للدولة أن تكون غائبة في المجتمعات التي تصبح مندمجة في المدارات الدولية لرأس المال. ولو يمكن أن توجد بعض المساحة للخصوصيات المحلية والإقليمية فإن العبرـ قطرية كصيرورة (أي كعملية عبور للحدود الوطنية) تستتبع عملية مجانسة لا متناهية للأشكال السياسة والقانونية وللفضاء عبر الحدود الوطنية. لأنّه وحدها دولة قادرة على الحفاظ على المساواة الشكلية والحياد في علاقة بالمصالح الفردية هي الأقدر على الإشتغال كما ينبغي كعلاقة استغلال طبقي وتسهيل آليات الإستغلال الاقتصادي ومدار رأس المال. هذا أساسيّ اليوم أكثر مما كان في التسويات الإمبريالية السابقة نظرا للإرتفاع الكبير في سرعة ومدى الحركة الدولية لرأس المال.

من الضروري عند هذه النقطة أن نشير إلى خطيئة مفصلية في أعمال مثل أعمال ويليام روبنسون وآخرين من الذين حذوا حذوه فيما يتعلق بفكرة العبرـ قطرية. في تناقض صارخ مع الكيفية التي استملكنا بها بولانتزاس هنا، يتخيّل روبنسون أنّ العبرـ قطرية هي عملية تصبح خلالها الدولة الوطنية في ضعف متزايد، لكونها بصدد ترك مكانها لصالح واقع جغرافي ومؤسساتي فوق ـ وطني (مُعَوْلَم). ويلخص ذلك كالآتي:
“في الوقت الذي يصبح فيه الترابط العضوي والداخلي بن الشعوب عالميا بالفعل، يلتغي كامل جهاز مؤسسات الدولة الوطنية بحلول مؤسسات عبرـ قطرية محلّه”ii

هنا لا تُستعمل عبارة “عبر- قطرية” للإشارة إلى إعادة إنتاج الدولة الرأسمالية في تشكيلات اجتماعية بل للتدليل على نوع من الذبول عبر ـ القطري للفضاءات السياسية الوطنية الخلوية المتجزئة في مواجهة الرأسمالية العالمية وتشكّل الطبقات. هنالك حقيقة العديد من المشاكل في مثل هاته المقاربة. ليس بمنطق مدى وفائها إلى أطروحات بولنتزاس الأصلية لكن لأنها تقودنا إلى فهم وقراءة خاطئتين جدا للمجال المكاني للإستغلال الرأسمالي والصراع السياسي وتجرّنا إلى فهم اختزالي مبالغ فيه للعلاقة بين الصراعات السياسية الوطنية والمؤثرين والفاعلين الخارجيين والدوليين.ما يبيّنه لنا حراك مكافحة الفساد الدولي هو أنه عوض دفع الدولة إلى أن تصبح أقل قوة وأهمية، تدفع هذه الحركات العالمية الدول لتصبح أقوى وأقدر على تجاوز السلطة السياسية للفاعليين الإقتصاديين المهيمنين وسيطرتهم المباشرة. هذا يتضمن أيضا في نفس الوقت أن الأطراف الرأسمالية غير المتصلة بالمكان ستستفيد من قدرتها على التحرك بأقل تكاليف وحواجز، لا يتم هذا بتعويض الفضاء السياسي والمؤسسات الوطنية بل بمجانسة أشكالها وتقوية قدراتها المؤسساتية.

ربما يبدو أن هاته المساعي الدولية ضد الفساد، بمفهوم العتامة، لم تحقق أجندتها بالكامل في تحويل الدول فعليا في عديد المجتمعات التي استهدفتها (الصين والهند ونيجيريا أمثلة ممكنة). لكن الغايات والتبعات السياسية المقصودة من هاته المساعي واضحة. زيادة على ذلك، أصبح هذا التوجه نحو “الشفافية” إنجيلا؛ لا قائد أو نظام في العالم يتجرأ أن يعارضه. إذن حتى إذا فشلت المساعي الإصلاحية في تأمين التغييرات المؤسساتية والقانونية غالبا ما تنجح في تغيير منحى الخطاب والأجندات السياسية. الشعور بالفساد في اليونان (على سبيل المثال) بقي عاليا جدا وارتفع رغم (وبعديد الطرق بسبب) مساعي منظمة الشفافية العالمية. على أية حال، تمحورت الإنتخابات الثلاث الأخيرة حول مسألة الفساد، مع تعهّد كل حزب فائز بالحدّ منه. ترتبط مركزية مسألة الفساد في اليونان مباشرة بهذه المساعي الدولية والمتواجدة بالطبع في العديد من الأماكن الأخرى بالعالم. لا تقلّ الإنعكاسات الإيديولوجية والإدراكية والثقافية لسياسة مكافحة الفساد الجديدة هذه أهمية عن الإنعكسات الإقتصادية والمؤسساتية والقانونية المرجوّة منها.

1 نأكد هنا على أن مصطلح الشعبوية لا يحمل أي معنى سلبيا، إذ حافظ في المعجم السياسي الأمريكي (على عكس نظيره الأوروبي) على معناه الأصلي حيث الشعبوي هو المنحاز للشعب بمعنى الطبقات الشعبية وليس الديماغوجي أو المتطرف.

2 (volatility) درجة التغير وعدم الثبات

i Poulantzas, Nicos : State, Power and Socialism, New Left Books, P. 106

ii Robinson, William I : A Theory of Global Capitalism : Production, Class and State in a Transnational World, Baltimore ; Johns Hopkins University Press, 2044, P.92

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *