رأيْ | ماذا يحدث في الجزائر؟

رأي – خاصّ – الوطن العربي
 
محسن عامر

ناشط سياسي يساري

 في 23 ديسمبر 1991، أي قبل أيام قليلة من الانتخابات التشريعية الجزائرية، وقف طفل لم يتعدّ العاشرة من عمره في وسط عشرات الآلاف من الإسلاميين في أحد ملاعب الجزائر في جوّ إسلامي صاخب، بيّن الحجم الضخم للإسلاميين وهم ماضون  نحو انتخابات ستحدد مصير الجزائر ومصيرهم هم أيضا. كان ذاك الطفل، المهيب في وقفته وحديثه، ابن علي بالحاج، زعيم الجبهة الإسلامية للإنقاذ عندما كان أبوه وعباس مدني قياديي التنظيم الضخم قابعين في السجن. مشهد القسم الذي ردّدته الجموع الهادرة أمام هذا الطفل بالولاء للإسلام والموت من أجله أكدت بلا شك للمراقبين -النظام ومعارضي الإسلاميين-حجم التجييش الذي تقوم به الحركة الإسلامية وإصرارها بكل ما أوتيت من قوة على أخذ السلطة. 

من مظاهرة العاصمة ضدّ العهدة الخامسة لبوتفليقة (مصدر الصورة: موقع جريدة La croix)


بداية الأزمة
مثّلت وفاة الزعيم الجزائري هواري بومدين سنة 1979 نهاية حقبة من تاريخ الجزائر. وقد تميزت باشتراكية أساسها تدخل الدولة في الاقتصاد وتسييرها مباشرة للعملية التنموية، يضاف إليها سياسية أمنية عسكرية ترفض التعددية السياسية ولا تقبل إلاّ بسيادة الجيش المطلقة على مفاصل الدولة. طُويَ هذا العهد “الكريزماتي” بصعود عسكري آخر لسدّة الرئاسة، هو العقيد الشادلي بن جديد. شهد عهده انفتاحًا اقتصاديًا وتراجعًا عن مشروع الإصلاح الزراعي والتعريب. بكلمة أوضح، أزال كل أركان الحكم البومديني في السلطة (داخل النظام ومؤسسة العسكر) وخارجيا (القيام بأول زيارة لرئيس جزائري إلى فرنسا وواشنطن ) واقتصاديا . إلّا أنّ عهده شهد كذلك تفاقما للأزمة الاقتصادية ودخول البلاد حالة كساد، ما لبثت ان انفجرت في أحداث احتجاج اجتماعي عُرفت بالربيع الأمازيغي وقابلها الجيش بقمع وحشي في المدن المنتفضة.


كان للأزمة الاجتماعية في الجزائر في الثمانينات دلالات سياسية واجتماعية مهمة جدا. أوّلها عجز النظام ببنيته العسكرية الاستبدادية على تحقيق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وبالتالي عدم القدرة على إدامة الاستقرار القائم على سياسات الاستبداد. ثانيها تحول النظام في بنيته الداخلية إلى حالة بيروقراطية ينخرها الفساد. وقد ساهمت سياسة بن جديد في تكوين شبكة عصابات رأسمالية متنفذة داخل الدولة والحزب الواحد، مقابل مراكمة البؤس الاجتماعي في بلد يطفو على ثروات نفطية كبيرة جدا. ثالثا، وهو الأهمّ، القوّة الضاربة للتيّارات الاجتماعية المحافظة، التي تطورت واستفادت من فشل النظام لتقدم نفسها كبديل مهيمن وقوي يسعى بإصرار إلى الحكم.


الإنفجار : المواجهة الدموية مع الإسلاميين
اضطُرّ الشادلي بن جديد لإجراء تحوير ديمقراطي يقبل بالتعددية السياسية عبر تحوير دستور البلاد، إزاحة مدير المخابرات العسكرية الأكحل عياط ومحمد شريف ومساعدييه من الأمانة العامة للحزب الحاكم إلّا أنّ ذلك لم يرق لبارونات الجيش المسيطرين. إذ ما إن انطلقت الانتخابات حتى ظهر الحجم المخيف للحركة الإسلامية المهدد للنظام ، الذي سيفتح عهدا “طالبانيا” رجعيا في الجزائر. هكذا تمّ قمع الحركة الإسلامية وإلغاء الانتخابات واعتلاء محمد بوضياف سدة الحكم. ولم تمض سوى أشهر قليلة حتى اغتيل على يد الملازم في القوات الخاصة الجزائرية لمبارك بومعرافي في 29 جوان 1992، لتنطلق فعليا ما تعارف على تسميته لاحقا بـ”العشرية السوداء”.

الجزائر بلد غير متجانس اثنيا، يمتد على مساحة ضخمة – هي خمسة أضعاف حجم فرنسا – تشقّها سلاسل جبال الأطلس الشاهقة وتحتويها الصحراء الكبرى في الجنوب. يتداخل فيها العنصران العربي والأمازيغي بطريقة متشعبة، تنبني على قاعدة الحذر الدائم وسط تعبيرات قبلية هي المهيمنة على المشهد الاجتماعي الجزائري. ينضاف إلى ذلك تصحّر سياسي ركّزه الإستبداد العسكري بما منع نشوء حركات ديمقراطية مواطنية قادرة على تحويل الجزائر من بلد متخلف على المستوى الاجتماعي والسياسي إلى دولة مواطنية حديثة ديمقراطية.

سمح فشل الأنظمة العسكرية الكاريزمية في قيادة تحول سياسي وتنموي حقيقي، وبسقوط التجربة الاشتراكية وغياب بدائل ديمقراطية، للقوى المحافظة – أيْ الإسلاميّون – بأن يطرحوا أنفسهم بقوة كبدائل محافظة للقوى التقليدية في الحكم. نجح الإسلاميون في تجييش مئات الآلاف ودفعوا البلاد نحو أتون صراع سياسي رجعي مع العسكر، انتهى كما كان متوقعّا بصدام عنيف دام عشرة سنوات.
كان إعلان علي بالحاج على تبنّي الخيار المسلح ضد النظام بداية مواجهة دموية، لجأ فيه الإسلاميون لعملية القتل والقتل المضاد، ودخلوا في مسار تكوين عسكري و تنظيمي وأيديولوجي جديد نحى نحو مزيد من التطرّف والعنف.

تمّ توحيد العمل القتالي، الذي بدأ ينحو نحو التراكم النوعي التنظيمي، في 13 ماي 1994 في جبال منطقة الأربعاء، التي تبعد 30 كلم غربي العاصمة. وهناك برز اسم موحّد للمجاميع المتطرفة هو الجماعة الإسلامية المسلحة تحت قيادة عبد الله أحمد. هكذا دخلت الجزائر في عمليات قتل وقتل مضادّ بين الجيش والجماعة الإسلامية المسلحة أودت بحياة عشرات الآلاف من المدنيين، وخيم مشهد الموت المخيف على الجزائر. 

حاول النظام ابتلاع حالة الاقتتال والعودة إلى المربّع الأوّل عبر سنّ “قانون الوئام المدني”، من أجل إعادة حالة الاستقرار عبر إقرار عفو عامّ يُنهي حالة الحرب. ولئن نجح بوتفليقة نسبيا في إعادة حالة من الهدوء والاستقرار الأمني فإنّ هذا الحدث مثّل حالة انتقال كبرى بالنسبة للمجاميع الإسلامية المقاتلة. إذ أنّها مثّلت بداية الظهور الحقيقي للمجموعات الأكثر تطرفا، التي اختارت لنفسها إسم “الجماعة السلفية للدعوة والقتال”، ولتبايع لاحقا زعيم القاعدة أسامة بن لادن وتتحول لاحقًا إلى فرع من تنظيمه تحت مسمّى “تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي”.


الإنتفاضات العربية: التغيير في الجزائر في مواجهة تحدّي الإسلام السياسي 
الربيع العربي، هذه الإنتقالة الهادرة التي هزّت العالم العربي، أخرجت المجموعات المتطرفة من يأسها وعزلتها السياسية و العمليّاتية لتتحول إلى لاعب إقليمي مُدمج ضمن حسابات الفاعلين والمتنافسين في المشرق العربي. أدخل اندلاع الانتفاضة السورية  الحركات المتطرفة في عملية تحول نوعي، انتهى بخروج “داعش” كبديل نوعي عن تنظيم القاعدة، قبل أن ينفرط المارد المتوحش، أُمَمِيّ التوجه، من جديد معلنا عودة خط أسامة بن لادن. هذا التحول للظاهرة الإرهابية من حالة عمل العصابات إلى حالة الدولة في العراق وسوريا ألقى بظلاله على المغرب العربي. هجرت أغلب التنظيمات المتطرفة التابعة للقاعدة نحو داعش. بدأت مجاميع متطرفة كجند الخلافة تنتقل من القاعدة إلى داعش مع مجموعات أخرى جزائرية في البويرة و سكيكدة شرقي الجزائر.

بداية تفكك تنظيم القاعدة بقيادة عبد المالك دوكال هو نتاج طبيعي لعملية التحول النوعي الذي يشهده التطرف الجهادي في العالم العربي. بنهاية مهام الخط الجهادي “الستاليني” في مواجهة أنظمة كانت تنعت بالصليبية وسقطت، ظهرت مهمات جديدة أصبح تنظيم القاعدة بقراءته الأيديولوجية و أدائه التنظيمي عاجزا عن أدائها . والأهم من ذلك الدور الإقليمي المناط بعهدة الجهاديين، والذي يسعى الفاعلون الدوليون دفعه نحوه. فتنظيم الدولة الإسلامية، أو ما كان يسمى القاعدة في المغرب الإسلامي، في حالة تحول بطيئ بالقياس مع متطرّفي المشرق المقحَمين في مسرح الأحداث الهادرة في سوريا والعراق واليمن. منع الوزن الكبير للنظام الجزائري وقبضته الأمنية الحديدية وانخراطه في لعبة التخندقات الإقليمية نقل السيناريو المشرقي الداعشي نحو عمق الجزائر، وبالتالي بقي متطرفو المغرب العربي معزولين نسبيا عن مجرى الأحداث حتى إشعار أخر.


حدود مشروع الإنتقال الديمقراطي : ثلاثية دولة الحزب الواحد في مواجهة الإسلاميين والحركة الديمقراطية


تميّزت الإحتجاجات الأخيرة في الجزائر ضد “العهدة الخامسة” للرئيس “الصورة” عبد العزيز بوتفليقة على امتداد مدن عديدة في الجزائر/ التي كانت وسائل التواصل الإجتماعي مجالا للتعبئة فيها، بطابعها العفويّ رغم أنها أسندت من تيارات سياسية متعددة المشارب. “جمهورية بابا” أو الإرهاب، بوتفليقة أو الإسلاميون، مقابلة غير منهجية تصب في مجرى إدامة الأزمة في الجزائر. عدا كون الحالة الإسلامية الجزائرية تشقها تيارات عديدة، الإخوان المسلمون (المطروحون دوما على طاولة بديل الحكم المقبول غربيا..) أي حركة مجتمع السلم (حمس) في وفاق مع النظام الحاكم في الجزائر لاعتبارات تكتيكية. الإستبداد السياسي هو الدعامة الأساسية التي ولدت وتربّت فيها “المافيا” بتعبير الرئيس المقتول محمد بوضياف.

لا يمكن إدامة النظام الحالي بصراعاته الداخلية، لجهة ترتيب بيت السلطة وتناقضاته وفي مستوى تعاطيه مع المسألة الإقتصادية والإجتماعية والأزمة السياسية الحالية، في ظلّ مسح الساحة السياسية من المعارضين وعدم عقد توافقات سياسية مع الفاعلين الديمقراطين. بمعنى أوضح، لا بدّ من توسيع ممكنات الشراكة الوطنية مع الطيف السياسي الجزائري وتحجيم أكثر ما يمكن من الطبقة الحاكمة التقليدية الماسكة بزمام السلطة والإمتيازات الإقتصادية، محاربة الفساد، عدالة إجتماعية، تساوي الفرص. عدم تدارك النظام الحالي لأزمته عبر فتح الأفق للتغيير، سيعني تقديمه الجزائر هديّة للمجهول داخليا وخارجيًا.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *