تحليل| الترفيع في نسبة الفائدة المديرية : مقاومة للتضخّم أم ضمانٌ لمصالح الكمبرادور المصرفي؟

اقتصاد سياسي – خاصّ – تحاليل – تونس

د.مصطفى الجويلي

باحث وأستاذ جامعي في الاقتصاد.



أقرّ مجلس ادارة البنك المركزي  يوم الثلاثاء 19 فيفري الترفيع في نسبة الفائدة المديرية بـ 100 نقطة أساسية، لتنتقل بذلك من 6،75 %  الى 7،75 % سنويا. هذه المرّة السابعة – منذ 2012 – التي يتمّ فيها اتخاذ مثل هذا الإجراء، وهو ما يؤكّد أنّ الترفيع الأخير ليس اجراءً ظرفيًا. بل يندرج في اطار سياسة مُمَنهجة للبنك المركزي الذي غدَا “مستقلاً”.

 يبرّر البنك المركزي هذا الترفيع بـ”ضرورة الحدّ من التضخم”، في  تناغم مع ما يسوّق له  صندوق النقد الدولي ومنظّرو العولمة الليبرالية من أنّ الترفيع في نسب الفائدة سيُقلّص من الطلب على القروض، وبالتالي من الطلب على السلع والبضائع؛ وهو ما سيؤدّي (ميكانيكيًا) حسبهم الى انخفاض الأسعار (عملا بقانون العرض والطلب) وتراجع التضخّم.  الّا أنّ المعطيات تُكذّب مزاعم  البنك المركزي. اذ  أنّ الترفيع في نسبة الفائدة المديرية من 3،5 % في جانفي 2012  الى  6،75 % في جانفي 2019  لم يمنع نسبة التضخم من الارتفاع من 5،6 %  الى 7،5 %  خلال نفس الفترة.

في الحقيقة، إنّ الربط الآلي بين حجم القروض (أو الطلب على القروض) وتسارع التضخّم لا يستقيم. وهنا يجب أن نفرّق بين نوعين من القروض:

  •  النوع الأول هو القروض الموجهة للمؤسسات، وتحديدا قروض الاستثمار؛  تزايد الطلب على هذه القروض يحيل الى أنّ المؤسسات تواجه طلبا متزايدا على السلع ناجمٌ عن تحسّنٍ في المقدرة الشرائية،  وهو ما يدفع هذه المؤسسات الى زيادة انتاجها والالتجاء الى الاقتراض لتمويل نشاطها. في هذه الحالة يشهد الاقتصاد حركية تُنتج تحسّنا للقدرة الشرائية (خلق مواطن شغل و زيادة في كتلة الأجور) وتضمن توازنا (نسبيا) بين العرض والطلب واستقرارا نسبيا للأسعار.
  • أمّا النوع الثاني فهو القروض الموجّهَة للأشخاص أو العائلات (أي القروض الاستهلاكية وقروض السكن).  والطلب المتزايد على هذه القروض مرتبط أساسا بتدهور المقدرة الشرائية نتيجة لتدني الأجور و/أو ارتفاع الأسعار. ممّا يجعل العائلات غير قادرة على تلبية جزء من حاجياتها دون اللجوء الى القروض البنكية . في هذه الحالة يصبح الطلب المتزايد على القروض نتيجة للتضخّم وليس سببًا له.

لماذا إذن يعمد البنك المركزي الى الترفيع في نسبة الفائدة المديرية ؟

لا يمكن فهم السياسة المتوخّاة من طرف البنك المركزي بمعزل عن سياق عالمي يتميّز بهيمنة السياسات الليبرالية. وهي تتمظهر تجاه بلدان الجنوب بسعي المؤسّسات المالية العالمية الى فتح أسواق بلدان الجنوب أمام بضائع واستثمارات الشركات العالمية وفرض ما يُسمّى بـ”استقلالية البنوك المركزية”  في ظلّ الهيمنة المتزايدة للرأسمال المالي. في هذا السياق يتنزّل مسار تحرير الاقتصاد في تونس، الذي انطلق بتطبيق برنامج الاصلاح الهيكلي (1986) وامضاء اتفاق المنظمة العالمية للتجارة (1994) واتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي (1995).

تَعمّق هذا المسار في السنوات الأخيرة بتحرير شبه كلّي للواردات وبسنّ قانون الاستثمار وقانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص. وكذلك بالقانون الأساسي للبنك المركزي، الذي فرضه صندوق النقد الدولي وصادقت عليه الأغلبية البرلمانية اليمينية في 11 أفريل 2016.  بمقتضى هذا القانون أصبح البنك المركزي “مستقلاً” في ضبط وتنفيذ السياسة النقدية، كما وقع تجريده من وظائفه التقليدية؛  خاصة منها إقراض الدولة ومراقبة التجارة الخارجية والمحافظة على قيمة العملة الوطنية. بذلك أصبحت مهمّة البنك المركزي تنحصر فقط في “مراقبة الأسعار ومقاومة التضخم” عبر آلية وحيدة، هي الترفيع في نسبة الفائدة المديرية.


في ظلّ “استقلالية” البنك المركزي وعدم قدرته على المحافظة على قيمة الدينار، يسعى صندوق النقد الى التخفيض من قيمة الأخير والدفع نحو تعويمه خدمة لمصالح الشركات الرأسمالية العالمية المستثمرة في تونس ( ذلك أنّ التخفيض في قيمة الدينار يمكّن هذه الشركات من الضغط على كلفة الانتاج، خاصة كلفة اليد العاملة ). الّا أنّ التدهور المتسارع للدينار يساهم بشكل مباشر في التضخم، إلى جانب عوامل أخرى مثل العجز التجاري (التضخّم المستورد) والترفيع في أسعار المحروقات والتقليص في نفقات الدعم الذي يفرضه صندوق النقد الدولي.

هذا التضخّم لا يخدم إلا مصلحة الكمبرادور (أي البرجوازية المحلّية الوكيلة لرأسمال الأجنبي، التي تساعده في نهب ثروات البلدان شبه المُستعمرة). تحديدا الكمبرادور التجاري الذي يؤمّن تسويق البضائع المستوردة. ذلك انّ ارتفاع الأسعار لا يقترن بزيادة مضاهية في الأجور، أي في كلفة الانتاج، ممّا يمكّنه من تحقيق أرباح متصاعدة. ويكفي هنا الرجوع الى المعطيات والتقارير التي ينشرها موقع “البورصة” حتى نتبيّن نسب النموّ المرتفعة التي تحققها أرقام معاملات العديد من الشركات، وعلى وجه الخصوص المساحات التجارية الكبرى (التي تتكدّس فيها البضائع المُوَرَّدة).

هنا، يرى خبراء العولمة الليبرالية  ومُنظّرو “استقلالية البنوك المركزية” أنّ التضخّم يضرّ بمصالح الدائنين، وخاصة البنوك حيث تتدنّى قيمة أصولهم. لذلك على البنك المركزي أن يرفع في نسبة الفائدة بالتوازي مع ارتفاع معدلات التضخم. وذلك حتى يتم تعويض الدائنين (البنوك والمؤسسات المالية) بشكل كامل عن آثار التضخم. فالسياسة النقدية الموكول الى البنك المركزي ضبطها وتنفيذها يجب أن ترتكز على هذه القاعدة كيْ تضمن للدائنين أسعار فائدة حقيقية ثابتة ولا  تتأثر بالتضخّم. ولذلك أيضا يجب أن يكون البنك المركزي “مستقلا” عن الحكومة التي قد  تعجز عن تنفيذ مثل هذه السياسة أمام الضغوطات الاجتماعية.

إذن على عكس ما يروّج له البنك المركزي التونسي وأشباه الخبراء، فإنّ الترفيع في نسبة الفائدة المديرية لا علاقة له بمقاومة التضخم، بل يهدف للحفاظ على مصالح اللوبيات البنكية، أو بالأحرى إلى توزيع منافع التضخم بين الكمبرادور التجاري والكمبرادور المصرفي. هنا ايضا يُمكن الرجوع الى التقارير السنوية للبنوك (موقع البورصة) لنكتشف الأرقام الهائلة التي حققتها البنوك في السنوات الأخيرة، إذ سجلت العديد من البنوك نموًا في ناتجها الصافي تجاوز الـ 20 %. تعود هذه الأرباح الهائلة بشكل كبير الى الترفيع المستمرّ في نسب الفائدة؛ خاصّة وأنّ البنوك لا توظّف هذا الترفيع على القروض الجديدة فحسب، بل أيضا على الأقساط المتبقية من القروض القديمة.

ختاما، في الوقت الذي تشير فيه كل المعطيات الاحصائية (نسبة النمو، العجز التجاري، معدلات البطالة، تدهور الدينار، التضخم) الى أوضاع اقتصادية واجتماعية خانقة، تُحقّق فيه شرائح الكمبرادور التجاري والمصرفي أرباحا متزايدة.  الأوّل بفضل التضخم واغراق السوق بالسلع الموّردة، والثاني   بفضل ترفيع البنك المركزي “المستقلّ” باستمرار لنسبة الفائدة. أصبحت هذه الشرائح الطفيلية والرثّة تمثّل بشكل جلِيّ القنوات الرئيسية للهيمنة الاستعمارية. لذلك تُمنح لها الامتيازات (أنظر الاجراءات الواردة  في قوانين المالية المتعاقبة) وتتنافس الأحزاب اليمينية لتكون تعبيراتٍ سياسية لها.  

ومن ناحية أخرى، هي تدمّر القطاعات المنتجة وقدرة المؤسسات الوطنية على الاستثمار والانتاج والتشغيل،  بما يوسّع دائرة البطالة والتهميش ويعيد انتاج واقع الهيمنة الاستعمارية. أمّا بالنسبة للمواطن، فإنّ التضخّم، الذي يُضعف قدرته الشرائية، قد يدفعه إمّا الى الضغط على نفقاته والتخلي عن استهلاك جزء من حاجياته أو إلى اللجوء الى الاقتراض والوقوع تحت طائلة المزيد من النهب البنكي.       

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *