رأيْ | في فنّ التفاوض على بيع تونس: “الأليكا” مثالاً

اقتصاد سياسي – رأي – خاصّ – انحياز

مَها بن ڨدحة (*)

يتفاوض الاتحاد الاوروبي مع تونس منذ سنة 2015 على ما يسمى باتفاق التبادل الحرّ المعمق والشامل (الأليكا). وهي تُعتبر من الجيل الجديد للاتفاقيات التجارية التي يسعى الاتحاد الأوروبي لفرضها بكل الوسائل، على الدول التي يعتبرها أسواقا تقليدية له. وخاصة منها التي وقّعت معه اتفاقيات شراكة سابقة،  كدول شمال إفريقيا أو دول شرق أوروبا (دول الإتحاد السوفياتي سابقا) ودول جنوب الصحراء الافريقية.

وفي خضم مفاوضات عسيرة على الرسوم الجمركية تخوضها بريطانيا للخروج فعليا من السوق الحرّة الاوروبية، ومع تصاعد الحرب التجارية العالمية التي أطلقها ترامب بفرض رسوم جمركية على الحديد والألومينيوم، ومع تفاقم الأزمات السياسية والمالية في الاتحاد الأوروبي، وآخرها تلويح ايطاليا بعدم الالتزام بالموازنة حسب ما يفرضه ميثاق الاستقرار في الميزانية [1] وما يترتبّ عنه من تهديد بخروجها من المجموعة الاقتصادية والمالية، ومع التهديدات الانفصالية (النزعات الاستقلالية) التي شهدتها اسبانيا وآخرها فرنسا، تتقدم المفوضية الأوروبية (المسؤولة بموجب تفويض من البرلمان الأوروبي) بخطى حثيثة نحو توقيع أكبر عدد ممكن من هذا الجيل الجديد من الاتفاقيات التجارية. وهي تهدف الى تحرير [أيْ فتحها للمنافسة بين رأس المال الأروبي والمحلّي، عبر رفع الحماية الجمركيّة عنها] شامل للقطاعات الاقتصادية، من تجارة وخدمات (بما فيها العمومية منها مثل البريد والتعليم والصحّة والماء) والفلاحة والطاقة والاستثمار (بما فيها الصفقات العمومية) وفرض التشريعات الأوروبية في الأسواق التي تبغي تحريرها.

ويجدُر بالذكر أنّ الاتحاد الأوروبي يستعد لإجراء انتخابات برلمانية واختيار مفوضيّة جديدة في ربيع 2019. ومع التحولات السياسية الاقليمية المنبئة باكتساح أحزاب أقصى اليمين مقاعد البرلمان الاوروبي، تأتي هاته الخطوات ثابتةً لتحقيق أكثر ما يمكن تحقيقه من مكاسب ومغانم تخدم مصالح الشركات ولوبيات رأس المال المرابطة بأروقة المفوضية. هذا مع العلم أنّ أغلب المبادلات التجارية لتونس مع الاتحاد الأوروبي تتمحور أساسا مع الدول ذاتها التي تشهد الأزمات وتتسم بغموض مستقبلها في مجموعة اليورو.

إلّا أنّ هذا الأمر لا يبدو أنّه يؤرّق الجانب التونسي ولا يثير حتّى تساؤلات لديه حول  الفائدة من التسرّع في توقيع “الأليكا” ) التي  سنحاول شرحها وطرح اشكالياتها وشروطها  في مقالات لاحقة). ومن جهته لم يتوانَ رئيس الحكومة يوسف الشاهد، عند زيارته لبروكسل في أفريل 2018، عن طمأنة الجانب الأوروبي بأنّ تونس سوف توقّع الاتفاقية قبل 2019. هذا في حين أنّ هذه المفوضية نفسها كانت قد أدرجت  قبل أشهر قليلة تونس بطريقة أُحادية وتعسّفية في القائمة السوداء للدول غير المتعاونة في محاربة تبييض الأموال ومقاومة الارهاب، لتنقلها لاحقًا إلى القائمة الرمادية دون آليات أو معايير واضحة.  وهو ما يجعل التساؤل مشروعا: ما فائدة التفاوض إذا كان التوقيع مُحقّقًا؟ وكيف للمفوضية الأوروبية أن توقّع اتفاقيات بهذه الأهمية مع دول على قائمتها السوداء- الرمادية، وهي ملزمة بواجب الانسجام في سياستها الخارجية؟ وكيف لحكومة سترحل قريبًا أن تلتزم بمعاهدات ستعيد هيكلة الاقتصاد التونسي، وسترهن مستقبل أجيال على مدى عقود؟

وعلى ماذا يتفاوض المفاوضون؟ ومن فوّضهم ومن يسائلهم؟ أوليس من حق الشعب أن يعرف مِمّن وكيف يُحدَّد مصيره؟ ألم يقم بثورة ثمّ انتقال ديمقراطي (مدعوم من الاتحاد الاوروبي) وانتخب ممثليه على أساس المسائلة والمحاسبة؟ أليست هذه الديمقراطية التي يدعمها الإتحاد الأوروبي؟ أليس من الأجدى أن يُسنّ قانون أساسي – مثلما هو الحال لدى الطرف المقابل – يحدّد صلاحيات التفاوض ومشمولاته وآلياته وتراتيبه ومدّته وطريقة مساءلة المفاوضين؟ أوَليس هذا الشأن بالأهمية القصوى ويتضمّن مسؤولية جسيمة للمفاوض التونسي، بما يستوجب حمايته بقانون يوجّهه ويرسم حدود تدخلاته مع الجهة المقابلة؟ لا يوجد في الجانب التونسي شيء من هذا القبيل، وهو ما يثير الشك والريبة حول مسار هذه المفاوضات. إلّا أنّ عدم وجود قانون تفويض ليس السبب الوحيد لهاته الريبة.

انطلقت المفاوضات في السرية، فطالبت منظّمات تونسية بنشر فصول الاتفاقية وبتشريكها في المفاوضات. وبعد تعالي الانتقادات نُشرت الفصول على موقع المفوضية الأوروبية، إلى جانب بعض الدراسات المموّلة من طرف الاتحاد الأوروبي. وقام الفريق التونسي، بدعم من الجانب الاوروبي وبحضوره، ببعض الورشات واللقاءات مع المجتمع المدني المتعاون، حتى يتمكّن الطرفان – وخاصة الطرف الأوروبي – من احترام واجب الشفافية وتحرير التقارير ونشرها على موقعه.

ثمّ تعالت الأصوات منادية بضرورة التقييم الجذري والشامل لاتفاقية الشراكة السابقة الموقعة سنة 1995، التي فرضت على تونس منوالا تنمويا يعتمد على المناولة الرخيصة والقيمة المضافة المتدنية. هاته الاتفاقية التي رفعت الحماية عن القطاع الصناعي وألحقت به أضرارا كبيرة، من إغلاق للمصانع وتدهور للأوضاع الشغلية وحقوق العمال (مثلما هو الحال في قطاع النسيج) وذلك رغم ما يسمّونه بهتانا بـ”التأهيل”. اتفاقية 95 لم تشمل فقط الصناعة، إذ احتوت بروتوكولا اضافيا حول بعض المنتجات الفلاحية (حصص لتصدير زيت الزيتون السائل والأسماك والقوارص وبعض الغلال والورود مقابل توريد الحبوب والزيوت النباتية والذرة وبذور الباطاطا).

التقى الجانبان في دورتيْن “للتفاوض”، آخرها في صيف 2018. ومن المنتظر أن تعقد الثالثة في بداية ديسمبر المقبل حسب رزنامة المفوضية. إلّا أنّ الريبة تنتابُكَ عندما تلاحظ مدى استماتة الجانب التونسي في الدفاع عن الاتفاقية كما لو كانت مقترحًا تونسيًا، وتزداد الشكوك كلّما كشفت التقارير المنشورة عن أسماء الخبراء المُوكّلين من طرف الاتحاد الأوروبي لتقديم الدعم للفريق التونسي. إذ تجد أنّهم موظفّون سابقون في المفوضية الأوروبية أو حتى مسؤولين حاليين بوزارة الفلاحة الفرنسية.

كما يزداد التوجّس عندما تكتشف أن بعض بنود الاتفاقية تندرج في اطار قروض يمنحها الاتحاد الاوروبي لتونس، ويسعى الى تمريرها تحت شروط صرف الأقساط.  وكذلك عندما يتمّ تحيين نصّ الاتفاقية على مرّ دورات التفاوض، بإضافة فصول وأبواب من الجانب الاوروبي لكن دون تغيير نصّ الفصول الأقدم… وكأنّ التفاوض يعني حصرًا المُضي قُدُمًا في قبول نصوص ومقترحات الجانب الاوروبي ومحاولة فهمها. هذا فيما  تُصرف أموال “دعم المسار التشاركي” في استراحات القهوة والإفطار في النُزل، إلى أن نصل الدورة الأخيرة بإكتمال جميع النصوص والاحتفال بتوقيعها.

أمّا على الجانب الأوروبي، فكلّ الجهود مُوجّهة نحو تسويق وتلميع “الأليكا” وتقليل آثار اتفاقية 95 السابقة: “الدافع الرئيسي لهذه الاتفاقية ليس غزو السوق التونسية، فهي صغيرة الحجم مقارنة بالشركاء الآخرين. هذه الاتفاقية ستفتح فرصًا جديدة لتونس في السوق الأوروبية التي تتسع لـ 500 مليون مستهلك. سوف تكون فرصة لتأهيل القطاعات وإدماج الاقتصاد التونسي بالسوق الأوروبية”.

هذا ما لا يسأم من قوله مسؤولو وموظّفو المفوضية، وكثيرا ما نسمعه أيضا من خبراء تونسيون يقتاتون من المنظمات الاوروبية التي تموّلهم، مسوّقين بذلك وَهْم ولوج السوق الذي سيستفيد منه قلّة قليلة،  متناسين الكُلفة التي ستتحمّلها الأغلبية الساحقة. فالأليكا لن تكون هديّة لنا. وأمّا عن الإدّعاء بـ” كون تونس سوقا صغيرة”،  فتلك مغالطة. لأنّه إذا جمعناها مع الأسواق الأخرى، التي تسعى هاته الاتفاقيات لفتحها في مصر والأردن والمغرب ودول غرب وجنوب  افريقيا ومجموعة شرق افريقيا،  فسنتبيّن السوق الحقيقية الكبيرة التي ستناهز 1.1 مليار مستهلك في 2020.

فبقدر ما يسعى  الاتحاد الأوروبي الى فتح أكثر عدد ممكن من أسواقه التقليدية الافريقية، في محاولة منه للحدّ من المدّ الصيني، بقدر ما يتجنبّ التفاوض مع الدول المعنيّة في إطار تجمّعات اقليميّة. (الاتحاد المغاربي، الاتحاد الاقتصادي لدول غرب افريقيا، والسوق المشتركة لأفريقيا الشرقية والجنوبية). وفي الآن نفسه، تجده يدعم مسار انشاء “منطقة التبادل الحرّ الافريقية” والتعريفة الديوانية المُوحّدة. ذلك أنّ نجاحه في “تحرير” سوق واحدة منخرطة في مجموعة اقتصادية اقليمية سوف يمكنه من فتح آلي لأسواق المجموعة كلّها. وهو الأمر الذي سيمثّل فرصة ذهبية لمزيد مراكمة الأرباح للشركات الأوروبية المنتصبة في افريقيا ولفتح أسواق مجاورة جديدة دون تعب أو مفاوضات.

وأمام التقلّبات السياسية التي تشهدها تونس هاته الأيام  والتخوف من عدم التمكّن من التوقيع في الآجال الموعودة، من المحتمل ان تحاول المفوضية اقتراح اتفاقية مؤقّتة لا تشمل المفاوضات على جميع القطاعات. بل تركّز خاصة على فتح بعضها، كالخدمات والفلاحة، معوّلة في ذلك على حاجة البلاد لتصدير زيت الزيتون والخدمات، وخاصة منها في مجال الخدمات الإعلامية.

فصراعات الطبقة السياسية التونسية لن تُثني المفوضية الأوروبية عن متابعة أهدافها ولو تطلبّ الأمر تعديلا براغماتيًا للاستراتيجيات. وهي تعتمد في ذلك على إمكانياتها المالية والصناديق المخصّصة للتنمية المُمَوّلة من الدول الأعضاء وعلى بنوكها والقروض المشروطة والهبات المُقنّعة. وبذلك تجعل من الإعانات التنموية ومن المزايا التجارية المؤقّتة (من قبيل حصص إضافية في كميات زيت الزيتون للتصدير) مطيّةً لبلوغ أهدافها وفرض مصالحها التجارية. وذلك مثلما حصل مع بعض الدول الافريقية (الكامرون والكوتديفوار) حين لم يحترم الاتحاد الاوروبي مبدأ التفاوض الجماعي وتمكّن من الضغط على بعض البلدان على حدة داخل المجموعات الاقتصادية للتوقيع على اتفاقيات مؤقتة.

إذَن، عندما نعي مدى الشراسة التجارية للاتحاد الأوروبي ودهاء استراتيجياته، يصبح من السذاجة  بمكان التباهي بصفة “الشريك المميّز”. كما أنّه من السذاجة الاعتقاد بأن برامج التأهيل الأوروبية سترتقي بالقدرة التنافسية التونسية، بما أنّها ستستهدف فقط ما يخدم مصالح كبرى الشركات الاوروبية. لذلك يبقى دور المجتمع المدني، من الجمعيات والأحزاب والمنظمات الوطنية والحركات الاجتماعية، جوهريُا في التصدّي لهذه الاتفاقيات الاستعمارية. إلّا أنّ ذلك لن يكون ممكنًا إلّا عند فهم وحُسن توظيف تناقضات الجانب المقابل، وباليقظة  أمام كلّ أنواع الاختراقات المُقنّعَة من قبيل القروض والهبات والدعم الفني والتقني. وخاصّة بالنضال المتواصل من أجل الكرامة والعدالة الاجتماعية، مهما كان الطرف المقابل.

—-

[1] الذي فرضته المستشارة أنجيلا ميركل ووزير ماليتها فولفغانغ شويبل. والذي أسفر عن تكليف المفوضية بسلطأت أوسع لضبط الميزانيات الدول الأعضاء. إذ لم تقتصر المعاهدة على تحديد حد أقصى لعجز الموازنة بنسبة 3٪ من إجمالي الناتج المحلي، وإنما أصبحت الميزانية المتوازنة هي الهدف النهائي لمنطقة اليورو.

(*) متخرجة علوم اقتصادية، اقتصاد صناعي واستراتيجيات دولية من جامعة باريس 13 ومالية دولية من جامعة كلارمون 1. التحقت اثر الثورة بالديوان الرئاسي كمستشارة. تشغل حاليا خطّة مديرة برامج اقتصادية بمنظمة روزا لوكسمبورغ. مهتمّة بالتحليل النقدي لعلاقة الهيمنة الأوروبية النيوليبرالية على دول شمال افريقيا.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *