رأيْ | عن اليسار التونسي وفخّ “الهُويّة”

رأي – خاصّ – قضايا فكريّة

المولدي بن عليّة (*)

يقول ميشيل فوكو :”النقد يعني تلك الحركة التي من خلالها تعطي الذات لنفسها الحق في مساءلة الحقيقة وآثارها السلطوية” (1)

ما يمكن أن نستنتجه من قراءتنا لكلّ ما كتبه الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو هو أنّ النقد لم يعد كما هو في التقليد الكانطيّ، أيْ معرفةً مستقلة في ذاتها تبحث عن شروطها وحدودها في العقل وبنياته الخاصّة به. بل النقد هو شرط ضروري لكلّ معرفة، فهو ما يسمح بالتصحيح والتنوير لعقولنا ولمسلّماتنا. وكلّ معرفة ممكنة ومشروعة حول أنفسنا لا يمكن لها أن تتحقّق إلا عبر تحديد شروط هذه المعرفة وحدودها.

من هذا المنظور النقدي، أسمح لنفسي الدخول في سجال هادئ حول ماركس وفلسفته إثر فترة قصيرة من تنظيم ندوات حول ماركس بمناسبة مرور مئتيْ سنة على ولادته.  إذ انتابتني خيبة لم تكن متوقّعة بعد حضوري مؤخّرًا ندوات مختلفة حول ماركس والماركسية واليسار وحركة “برسبكتيف (العامل التونسي – حول تحركات مارس 1968) طيلة الأسبوعين الفارطين. خيبة جعلتني عاجزا عن التعبير عن حجم التناقضات اللامُفكَّر فيها تحت وطأة حجب المقارنات، مع تجارب سابقة موغلة في التاريخ ووليدة عصر وزمن ثقافي مغاير، لواقع الآن-هنا. مقارنات تعيد تكرار نفسها داخل هذا الطيف السياسي في تونس الآن و هنا، حتى وجدت نفسي كأنني نشازٌ فوق هذه الأرض أو أنّ هذه الأرض لم تعُد تسَعُني.

ندواتٌ ومحاضراتٌ تفتقد في أغلبها للعمق النقدي المطلوب، ولا صلة لها بحجم الكتابات النقديّة المعاصرة. كنت أتصوّر أنّ النقاش سيصل بنا الى أبعد من هذا المستوى، خاصّة ونحن نتحدّث عن إمكانية نقاش حول ماركس والماركسية بعد 2011، وبعد كلّ ما كُتب في المسألة الاجتماعية وحول الصراعات الهوويّة و الهوس الأيديولوجي الذي جرّنا إلى مربّع العنف. من عنف ثوري ضد السلطة والنظام إلى عنف احتدامي موجّه نحو أنفسنا كتونسيّين انتمى أغلبنا يومًا ما إلى حلم مضمونه التغيير والقطيعة مع الماضي.

أطروحاتٌ غابت عنها كلّ محاولات التفكير حول ما يتعلّق بواقع الثقافات العربية (تونس كأنموذج) وأزمة الوعي. الكلّ إمّا تحدّث عن الماركسية في السياق الأوروبي (ماعدى استثناءات) أوتحدّث بدرجات متفاوتة عن أزمة اليسار داخل النسَق السياسي-الاجتماعي المرتبط بطبيعة وبُنية النظام السياسي القديم (ذي الصلة بالدولة الوطنية). فحتى السؤال حول بُنية النظام العالمي الجديد، لم يُطرح إلّا من قلّة قليلة وبشكل اختزالي. إذ وكأنّ طوني نيغري مثلاً لم يُقرَأ بعد .

حسرة واستياء أصاباني حينما غُيّبت كذلك موضوعات البحث المتعلّقة بأسئلة الهويّة. وكأنّ أكتوبر 2011 لم يحمل معه كلّ هذا الكمّ الراهن من تصاعد مشحون للعنف على مستوى الخطاب، والمدسوس بغيريّة ضغائنيّة لم تتخلّص بعد من طَقْم التوصيفات الجاهزة التي يتمّ قذفها على الخصوم بطريقة تعكس حجم التوتّر والارتباك لدى كلّ من انخرط في الصراعات السياسية بعد أكتوبر 2011 .

للأسف الشديد لم يكن موضوع الهُويّة في بُعدها الثقافي، ولا مشكلاتها المابعد استعمارية، حاضرًا بالشكل المطلوب. إذ لم تكن هذه المسائل مطروحة بشكل واضح في سلّم اهتمامات الطيف اليساري في تونس، ظنًا ضمنيًا منه أنّ قضيّة الهُويّة كانت قد حُسمت في المشاريع الإصلاحية لكُلٍ من محمود المسعدي، أول وزير التربية في فترة مابعد الاستعمار، ومحمّد الشرفي وزير التربية والتعليم العالي في تسعينات القرن الماضي. وبالتالي لا مجال للرجوع الى مشكلة الهوية، وما على كلّ من لم تستوعبه آلة التحديث المابعد استعماري سوى الرضا بهذا النموذج والسكوت عن تصدّعاته و تناقضاته. ومن ثمّة ردّها، تحت مسمّى التناقض المؤقت تحت السيطرة الذي سيتم التخلّص منه باسم ضربٍ أعلى من التطابق أو التماهي، إلى أن نستفيق فيما بعد على صيحاتٍ مدافعة عن الاسلام وأخرى عن الخلافة. وأغلب هذه الصيحات تستدعي معطيات تاريخيّة تُشكّل من خلالها “سرديّة المظلومية” الخاصّة بها، فنكتشف أن كُلّ ما قيل عن حتميّات مشروع الدولة/الأمّة لم يكن سوى “ضرب من ضروب مخصوصة من التوحيد الزائف لشتات أنفسنا” (2)، أو يقع إتهامنا باللاوطنيّة والغرائبية و كلّ أنواع الغيريّة الجاهزة في قاموس الدولة/الأمّة الحديثة البورقيبية.

هذا النوع من التجديف السلبي فوق مشكلاتنا المرتبطة بواقع ثقافتنا الآن وهنا، أو القفز عليها وعدم مجاراتها، هو ما جرّ أغلب المنتمين الى اليسار، الرسمي خاصّة، إلى الإنزلاق في كلّ الفخاخ الهوويّة التي أُعدَّت له سلفا من قبل من له مصلحة في ذلك. وهي فخاخ دفعته للانغماس في المعارك حول النموذج الثقافي للمجتمع، حتى تقلّصت حظوظ مشروعيّته لدى جزء هام من الشعب التونسي، إذا لم نقل جزء كبير، في الدفاع عن أو تمثيل طبقاته المفقّرة. بما في ذلك ما يتعلّق بالسياسات العامة، التي تمسّ بصفة مباشرة المسألة الاجتماعية، والأزمات الاقتصادية التي نمرّ بها بشكل متسارع .

تنعكس هذه الثغرة المتعلّقة بالبعد الثقافي  في بعض أشكال الرفض الشعبي تجاه من ينتمون لليسار التونسي، وتتمظهر في صدّهم عن الانضمام لهمُومهم  ومعاناتهم اليومية. وهو ما جعل اليسار الى اليوم في نوع من عدم الإنسجام مع شخصيّة التونسي. لا أتحدّث عن مجرّد الإنسجام مع همومه فقط، بل كذلك الانضمام الواجب لكلّ ما يتعلّق بهواجسه التاريخية وتخوفاته المستقبلية. ويعود ذلك، بتقديري، إلى عدم فهم الوضع الاجتماعي العام في تسلسله (3). وقد أفرزت هذه الثغرة، التي ما انفكّت تتوسّع، هذه القطيعة الاجتماعية مع جزء كبير من الجماهير الشعبية، وهي التي أجهضت كل المحاولات اليسارية الصادقة في القيام بمهامها الثورية والالتحام بالوقود والخزّان الأساسيّين لكلّ عمليات التثوير والتغيير الجذري.

القصور الفكري هو نتاجٌ للكسل المعرفي الذي يبحث عن اجابات في نصوص مستوردة وجاهزة سلفًا. فإلى اليوم، يفتقد يسارنا إلى طرح الأسئلة الصحيحة حول طبيعة المجتمع عبر فهمٍ غير جاهز سلفًا للمعتقدات والعادات الراسخة في الوعي الجمعي. تلك التي لا يمكن لأيّ قانون بالمعنى السياسي أن يخترق مجالها الاجتماعي-الحيوي. في الاجابة عن سؤال ماهو الأساس لليهودية (4)، يجيب ماركس :”الحاجة العملية، المنفعة الخاصّة. ماهي العبادة الدنيوية لليهودي؟ التجارة. ماهو إلهه الدنيوي؟ المال.” طبعا، هذه الاجابة التي قدّمها لنا كارل ماركس كانت نتيجة لكلّ ما سبقها من نقاشه لكتاب “المسألة اليهودية” لصاحبه “برونو باور”.

لكن ما يهمّنا هنا هو مدى قدرتنا على طرح الأسئلة الصحيحة. اليسار العربي، والتونسي منه بالتحديد، لم يطرح السؤال بعمق عن الأساس الذي يقوم عليه الإسلام. خاصّة وأنّ الاسلام هو المعني بدرجة أولى في هذا الصراع الهووي الذي تفجر إبّان أكتوبر 2011.  فما عدى بعض الاستثناءات، كان الموقف من الاسلام قائم في أساسه السرّي على اختزال الوعي الديني في الأديان التوحيدية الأخرى التي قضت فيها التجربة السفياتية وحكمت عليها بالرجعيّة. وذلك دون دخول في جدال جدّي حول مدى قابليّة الاسلام أو أي دين معيّن للانحياز للطبقات المُفقَّرة والمسحوقة وللسياسات الشعبية ذات المضمون التقدّمي.

كلّ هذا السجال الذي أشرنا إليه سابقا يجعلنا حريصين كل الحرص على التنبّه إلى ضرورة إمتلاك المِعول المعرفي الكافي الذي يوثّق الارتباط الأصلي بين المقاومة الاجتماعية والمقاومة الثقافية(ماركس-غرامشي). كما يجعلنا متأهّبين لنوع من الانتماء الفريد والمتين لهذه الطبقات؛ انتماءً صحّيا وعضويا، حتى يكون الاشتباك اشتباكًا غير مُسقطٍ او متعالٍ على الناس وعلى مشاكلهم ومعاناتهم اليومية. فذلك هو السبيل كيْ تنخرط معنا هذه الطبقات المسحوقة، المندمجة بدورها في منظومة الاقصاء السياسي-الاجتماعي، في البرامج السياسية ذات الأفق الثوري .

هذا الانتماء للتجربة التاريخية لبناء شخصية التونسي ونمطه المجتمعي، لن يكون طبعا إنتماءً هوَويّا يقوم على التدجين والسيطرة الرمزية على الفعل الثوري الاجتماعي، أو على محاولة جرّه عُنوة إلى معاقل نضالية تقليدية غير جديرة باستيعاب خصوصية المرحلة.

كما أنّه لا وجود لشعب لا هويّة له، أي من دون سياسة انتماء معيّنة. وعليه، فإنّ مكمن المشكل هو في درجة استعمال الهاجس الهوَوي في تحديدنا لذواتنا، وليس في ظاهرة الانتماء بحدّ ذاتها(5).فكل ثورة لا تأتي إلا وتكون حاملة لرياح تغيير واسعة النطاق ومخترقة في آن واحد لنواميس الحياة اليومية للشعوب، و مبثوثة في ضمائرهم كذوات حيّة تمارس فعلها بكلّ جرأة. خاصة حينما تسحب البساط الأخلاقي من تحت كلّ من نصّبوا أنفسهم متحدّثين باسمها و نيابة عنها، باسم الدفاع عن الدين أو الدفاع عن العلمانية أو باسم أي نموذج جاهز سلفا.

إنّ اليسار العربي، ماعدى بعض الاستثناءات كأمثال المرحوم سمير أمين، لا يقرأ ماكتُب في الهند (دراسات التابع والمنظور مابعد الكولونيالي) وفي أمريكيا اللاتينية (تجربة لاهوت التحرير و غيرها…). هناك حيث توجد إنسانية أخرى لا تقبل بأي نوع من الوصاية على العقول ولا بأيّ شكل من الاسقاطات الانفعالية العمياء التي لا تحترم خصوصية تجارب الشعوب.

(*): باحث ماجستير في الفلسفة السياسيّة.

——————————————————————————-
الهوامش:

(1): ميشال فوكو، “ماهو النقد؟”.
(2:) فتحي المسكيني،”الكوجيطو المجروح: أسئلة الهوية في الفلسفة المعاصرة”، منشورات ضفاف، الطبعة الاولى سنة 2013، ص 122.

(3): كارل ماركس،”بؤس الفلسفة ردا على فلسفة البؤس لبرودون”، دار التنوير، الطبعة الاولى سنة 2010، ص256.
(4): كارل ماركس،”حول المسألة اليهودية”، منشورات الجمل، الطبعة الاولى سنة 2003، ص52.

(5): فتحي المسكيني،”الكوجيطو المجروح: أسئلة الهوية في الفلسفة المعاصرة”، منشورات ضفاف، الطبعة الاولى سنة 2013، ص 2018.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *