عن جريمة ڨْبُلّاط: الله ينجّينا من الآت…

الجريمة المروّعة بڨبلّاط ليست سوى مؤشّرًا جديدا على عمق وخطورة المرض الذي استبدّ بمجتمعنا (وباقي مجتمعات المنطقة العربية). لسنا بحاجة لـ“خبراء” أو احصائيات دقيقة لنكتشف مدى تفاقم العنف في حياتنا اليوميّة. يكفي أن تخرج للشارع وتلاحظ كيف يتعامل الناس مع بعضهم البعض (من العنف اللفظي لسوّاق السيارات إلى الأسواق إلى الأحياء السكنيّة… دون الحديث عن عنف البوليس العائد بقوّة…). أسمع كلّ يوم عن أحداث عنف مادّي فظيع – مجّاني ولأتفه الأسباب – في كثير من الأحيان.

لا يحتاج الأمر إلى كثير من التحليل. طبعا، بعضهم سيقدّم كعادته تفسيرات رجعيّة وشعبويّة، وحتّى عنصريّة عن “ثقافة المجتمع” و”عدم قابلية شعوبنا للتحضّر” والخ. وسيطالب بحلول ردعيّة قصوى جديرة بعُتاة الفاشيّين. لكن الأكيد لكلّ من يعتمد شيئا من المنطق ويقارب الظواهر بمنهج مادّي جدَلي (أي ذاك الذي يبحث في أصل الظواهر وأسبابها البُنوية، لا أعراضها وتمظهراتها الخارجية) أنّ هذا العنف المتفجّر والمتعاظم هو إفراز  طبيعي لسياسات اقتصادية وتربوية وثقافية واعلامية – وحتى رياضية – تزرع الفقر بكلّ أشكاله (وفقر العقول أخطرها بلا شكّ) واليأس في صفوف الأجيال الشابّة.

فالمحظوظون من أبناء الطبقات الثريّة، والشرائح العليا ممّا تبقّى من الطبقة المتوسّطة، لديهم دائمًا “فرصة ثانية” أو “ثالثة” لتدبير أمرهم (دراسة بالخارج فهجرة، أو رأسمال عائلي يسمح ببعث مشروع اقتصادي أو ميراث مُجزي والخ.). أمّا أبناء الطبقات المفقّرة والكادحة (خاصّة أبناء الأحياء الشعبية المتاخمة للمدن) فلم تحنُ عليهم الحياة بمثل هذه “الفرصة الثانية”، كما أنّ “الفيروس الليبرالي”، كما وصف الراحل سمير أمين، قد اخترق عقولهم مثلما اخترق غيرهم من الطبقات (حلم الإثراء السريع أو وهم “الجنّة الأوروبية” على الضفّة المقابلة للمتوسّط والخ.) بفعل ثلاث عقود من التدمير المنهجي لقيَم المجتمع عبر الثقافة الاستهلاكية والفردانية التي تبثّها وسائل “الاعلام” الخاصّة وبرامج “الترفيه” المبتذل (يكفي ذكر برامج سامي الفهري). أمّا من حاول منهم التفكير في “خلاص جماعي” عبر مشروع “تغيير جذري” للواقع فلم يكن ليجد أمامه – في أغلب الأحيان – سوى جماعات التشدّد الديني. ومنه التحوّل في حالات عديدة إلى حطب بمحرقة “الإرهاب” المُتَحَكَّم فيه امبرياليًا في سوريا وليبيا وغيرها…

واهمٌ من كان ينتظر غير ذلك من أبناء طبقات اجتماعية تطحنها يوميا ماكينة الاستغلال والتفقير الرأسمالي المُعَولم، فتعيش الحرمان من “ملذّات الاستهلاك”، فيما ترى يوميًا في الشوارع والتلفزيون كيف ينعم بها أبناء الطبقات المحظوظة. ذلك هو الصراع الطبقي دون وعيٍ طبقي. إذ يتحوّل إلى حقدٍ أعمى وعنف أهوج دون هدف أو قيَم تؤطّره. مجتمع لا تسود فيه سوى ” شريعة الغاب” وأخلاقه.

للأسف، واقع الحال لا يبعث قطُّ على التفاؤل. شخصيًا أتوقّع الأسوأ. أن يبلغ العنف درجات لم نعرفها من قبل. ففضلًا عن تفاقم العنف المجّاني وجرائم النهب والسرقة والعنف الجنسي والأُسري، لن أستغرب أن نرى في المرحلة المقبلة تكوّن عصابات مسلّحة تذكّر بكارتيلات التهريب والمخدّرات في أمريكا اللاتينية. ولن أفاجأ لو أرى المزيد من “الأمنيين” يتحوّلون إلى شركاء، ان لم يكن زُعماء، في مثل هذه العصابات (وربّما كذلك في ميليشيات مسلّحة تقدّم خدماتها لحماية الأثرياء من عنف الفقراء و”حقدهم الطبقي”).

وما يزيد الطين بلّة هو رؤية القوى السياسية الوحيدة القادرة نظريًا على الخروج بمجتمعاتنا من أزمتها (وأعني بها قوى اليسار الوطني الاجتماعي، الذي يحلّل تناقضات المجتمع بمنهج علميّ وينحاز للفئات المضطهَدة في وجه قوى الاضطهاد الأجنبي والمحلّي)، مازالت بدورها عالقة في أزمتها. أزمة خانقة تزامن احتدامها – دون مفاجأة – بداية التسعينات مع تسارع موجة الانحطاط النيوليبرالي العالميّة (التي انفلتت من عقالها اثر انتصار المعسكر الرأسمالي الغربي على الاتحاد السوفياتي)، ذات الأثار الأكثر تدميرًا في منطقتنا.

فهذا اليسار انقسم إلى ثلاث تيّارات أساسيّة: جزء منه فقد ثوريّته مع الحفاظ على انحيازه الطبقي والوطني – خطابيا على الأقلّ – فتحوّل إلى أحزاب أو جبهات اصلاحية قانعة بما تجود عليها “اللعبة الديمقراطية” الليبرالية من مغانم انتخابيّة هزيلة؛ وجزء ثانٍ تنازل عن روحه، وحتّى عن اسمه وكرامته أحيانًا، فتحوّل إلى يسار “ثقافويّ” لا همّ له سوى “الحرّيات الفرديّة” و”التصدّي للرجعية الدينيّة” عبر التحالف مع الرجعية الليبرالية باسم “الحداثة” و”العلمانية”،  يسعى للقمة عيش ذليلة من خلال الارتباط بالسلطة أو الاسترزاق من “المجتمع المدني” المُمَوّل امبرياليًا والخ. وأمّا ما تبقّى من يسارٍ جذري لم يحتويه النظام، فمازال عاجزًا إلى حدّ اليوم على تجديد نفسه والخروج من دغمائيته ونصوصيّته، والتعامل مع النظريات الماركسيّة كمنهج تحليل واجتهادات بشريّة، لا ككتب سماويّة مُنزّلة. ولذلك مازال غير قادر حتّى على إدراك خطورة التغيّرات المتسارعة التي يعيشها المجتمع، فضلاً عن اجتراح الحلول والأدوات النظرية والتنظيمية للتعاطي معها.

ورغم كلّ التشاؤم الذي يفرضه العقل البارد، لا يحقّ لنا غير التسلّح بتفاؤل الإرادة. ومن ثمّة مواصلة التفكير والعمل من أجل بناء البديل اليساري الجذري القادر على تحقيق علّة وجوده: ثورةٌ تُحرّر شعوب أُمّتنا من الاضطهاد الطبقي والامبريالي والتجزئة والطائفية والرجعيات بمختلف أشكالها، وتضع لبنات على طريق الاشتراكية، فالمجتمع الشيوعي، حيثُ الانعتاق الفعلي والكامل لجميع بني البشر.

 

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *