عن “أيّام قرطاج الكوريغرافية” التي لا تتحدّث العربيّة

رأي / ثقافة وفنون 

فاطمة د.

مواطنة تونسية متحصّلة على الدكتوراه في تاريخ الفن من جامعة باريس1، دَرَّست في باريس ولبنان وعملت لفترة كباحثة ببريطانيا.

لم يَعُد خافيًا على أحد أنّ بلادنا تمرّ منذ بضع سنوات بأزمة لغوية كبيرة، لها بُعدان أساسيَّان: انحطاط المستوى اللغوي العامّ (في اللُغتيْن: العربية، لغة الدولة وكذلك عامّة الشعب، والفرنسية، اللغة الأجنبية الأولى) من جهة، وهيمنة اللغة الفرنسيّة من جهة ثانية. ومن تداعيات البُعد الأوّل تفشّي ظاهرة تداخل اللغتيْن العربية والفرنسية في كلام شريحة واسعة من التونسيين، واعتماد هذا التداخل، عفوا أو عمْدا، في وسائل الإعلام المسموع والمرئي، بما في ذلك الإعلام العمومي (بوتيرة مذهلة في السنوات الأخيرة). ومن تداعيات الثاني، ترافُق هيمنة اللغة الفرنسية على عدّة مجالات مع اقصاء اللغة العربية، في بلاد ينصّ دستورها على أنّ “العربيّة لُغتها”، وليس للفرنسية فيها أية شرعية دستورية أو قانونية. وإن نصّ دستور الجمهورية التونسية الجديد لسنة 2014 في فصله 38 على أن الدولة ” تعمل (…)على ترسيخ اللغة العربية ودعمها وتعميم استخدامها”، فإنّ ذلك بقيَ  في غالب الأحيان حبرًا على ورق. ويكتسي الأمر خطورة خاصّة عندما يمسُّ القطاع الثقافي والفنّي الذي يُفترض أنّه يبلور روح المجتمع وهُويّته وتطلّعاته.

 

وفي غياب قانون واضح يُجبر على احترام اللغة الوطنية، صار تهميش العربية وإقصاؤها جاريًا بكثرة في المؤسّسات والتظاهرات الثقافية الخاصّة، أي غير التابعة لجهة حكومية رسمية، ولا سيما تلك المُموَّلة من بعثات أجنبية. ونفس الأمر بالنسبة للتظاهرات التي تُقام في المدن والأحياء الميسورة، أو التي يخطِّط لها ويموّلها ويشرف عليها تونسيُّون ممّن قطعوا صلتهم بالعربية المكتوبة، وحتى المقروءة، بصفة شبه كلّية لسبب أو لآخر[1]. ولا طوق نجاة يَقينا من الغرق سوى بعض المبادرات الفردية والمؤسسات الواعية والمناضلة، أو ما تُشرف عليه جهات حكومية رسمية، كوزارة الثقافة مثلاً، التي تلتزم باستعمال اللغة الوطنية ولو بطريقة غير مرضيّة تماما في بعض الأحيان.

إلّا أنّه في سابقة لا تنبئُ بخير، لفت نظري مؤخّرًا أنّ تظاهرة جديدة تُشرف عليها وزارة الثقافة، وهي “أيام قرطاج الكوريغرافيّة” التي انعقدت دورتها الأولى مؤخّرا، من 26 جوان إلى غرة جويلية بالعاصمة، قد ارتأت الاقتصار على اللغة الفرنسية واقصاء العربيّة تمامًا من مناشيرها. إذ باستثناء إدراج الاسم العربي للتظاهرة في هويّتها البصريّة (logo)، وخربشة تشكيلية صِرفة بالحروف العربية المكوّنة لكلمة “رقص” مهمّتها تزويق مناشير الدّورة، لم تُدرج اللغة العربية إلى جانب الفرنسية في أَيٍّ من مطبوعات التظاهرة. كما لم يُترجَم أي نصّ إلى العربيّة، ولا حتى عناوين الأعمال الفنية. ومن المفارقات أنّ بعضها مُترجَمٌ إلى الفرنسية من العربية، مثل « sur le pas de ta porte » التي أصلها “على باب دارك”، وهو اسم أغنية تونسية قديمة،  كما أنّ بعض العناوين مصاغ بالعربية، لكنّه مكتوب بالأحرف اللاتينية مثل l’Haal وBnett Wasla و Nass  وغيرها.  بل إنّه من المضحكات المبكيات أنّ بعض المقالات الصحفية المُحرّرة بالعربية، والتي روّجت لبرنامج هذه التظاهرة، قد أدرجت أسماء الأعمال كما هي، أيْ بصيغتها الفرنسية أو الإنجليزية وحتى العربية، بالرسم اللاتيني داخل النص العربي.

ولست أدري إن كان هذا التقصير مقصودًا أم إنّه ينمّ عن تهاون، ولكنّه في كلتا الحالتيْن غير مقبول بالمرّة : أوّلًا، ولأنّه صادر عن تظاهرة تُشرف عليها الدولة، مُمثَّلَة في وزارة الثقافة (وما أدراك ما الثقافة)، فإنّ في الأمر خرقًا للدستور واستهتارًا باللغة القومية وبلغة الشعب وتكريسًا، واعيًا أو غير واعٍ، للتبعية الثقافية والفكرية للسياسات الأجنبية، والفرنسية منها تحديدًا.  ثانيا، في ذلك إقصاءٌ للتونسيين الذين لا يُحسنون الفرنسية، وهُم كُثر[2]؛ هذا فضلا عن التونسيّين الذين لا يُحبّذون استعمالها.

 

وإن شكّلت هذه التظاهرة الجديدة بادرة مهمّة لقطاع فنّي عانى طويلاً من التهميش، فإنّ إقصاء العربية من أيّام قرطاج الكوريغرافية  يُشعرنا بمرارة كبيرة.  إذ يبدو أنّه يترجم الخلفية الذهنية للقائمين على هذه الأيّام ولتمثّلهم للرقص المعاصر والكوريغرافيا ببلادنا كما لو أنّ هذيْن الفنّيْن يرتبطان لديهم بالنخبويّة الفرنكوفونية (والحقّ أنّ في ذلك شيءٌ من الصحّة، لكن لا حاجة لتكريسه). أو ربّما أنّهم لا يتمثّلون هذا الفن إلاّ بارتباط بالأجنبي والجانبي، وهذا ربّما ما يفسّر الخطاب المُسقَط في هذه التظاهرة حول الأجانب والأقليات، وهذا نصّه :

تسعى هذه الدورة بحسب القائمين عليها، إلى رسم الخطوط العريضة لفضاء حواري متسّع حول مختلف أنواع الإكراهات التي تحصر الأجساد أشكال الإقصاء التي يعاني منها الأجانب النساء والأقليات. تتكوّن هيئة المهرجان من فريق شابّ ونسائي أساسا، “دينه الالتزام الفني والإيمان بالجسد الراقص كفضاء للتفكير والكفاح من أجل الحريات والأقليات” “[3].

ويحيل هذا الخطاب ذو النكهة الاستشراقية، التي عانى منها في تونس الإنتاج السينمائي تحديدًا لارتباطه بالتمويل الأجنبي والأوروبي بالأساس، إلى خلط مفاهيمي. إذ يدلّ للأسف على أنّ الرقص المعاصر والكوريغرافيا يقترنان في ذهن المُخطِّطين لهذه الدورة بإشكاليات لا دخل لهذيْن الفنّيْن بها، بل هي تشوّش على القضايا الفنية والجمالية والتقنية والمهنيّة وغيرها من المواضيع التي يطرحها فنّ الرقص والكوريغرافيا في بلادنا وفي الخارج. فالرقص فعلٌ عُضويٌّ عميق ينبع من باطن المجتمع وأحشائه، ويرتبطُ ارتباطا عضويًا وثيقًا بكلّ المكوّنات الجغرافية والاقتصادية والثقافية التي تُشكّله (واللغة مكوّن هامّ فيها)، وليس إسقاطَا فنيا أو تقنيا، كما أنّه لا يقترن بالأجانب أو الأقليات، وليست قضية المرأة من مشمولاته الأساسيّة. وحتى إنْ استُعِيرت بعض التقنيات من عند “الأجانب”، فإنها لا تتجذّر ولا تُزهِر إذا لم تتفاعل مع ثقافات الشعب العميقة. وهو ما يعني باختصار أنّ ارتباط أيام قرطاج الكوريغرافية، والرقص المعاصر عموما، بالنخبوية الفرنكوفونية (المرتبطة بدورها بأوروبا وبفرنسا أساسًا )، وبالخطابات حول الأقليات والأجانب وبكلّ الخطابات المُستورَدة من مختبرات أبحاث الجامعة الفرنسية [4]، لن يساهم في تطوير هذه التظاهرة ولا في النهوض بهذا الفنّ في تونس بالشكل المرجوّ. ولن يؤديَّ إلى ازدهاره وتعميمه، ولا إلى تحقيق نهضة حقيقية في مجاله، بل لن تكون نتائجه غير السطحيّة والتصنّع والانبتات عن الواقع العميق الذي يُطعّم الإبداع الحقيقي والجمالية الفذّة.

كما أنّ استعمال لغة أجنبية لا يُحسنها عدد كبير من التونسيين، ينتمي جلّهم إلى الشرائح الاجتماعية الضعيفة أو إلى المناطق الداخلية للبلاد، في تظاهرة تشرف عليها الدولة وتدّعي في خطابها أنها ملتزمة بنبذ الإقصاء لفيه تناقض كبير وخللٌ لا بدّ أن يُتَدارك. إلا إذا كان المعنيّون بالإقصاء، في تصوّر القائمين على هذه التظاهرة، هم الأقليّاتَ والأجانبَ من دون عامّة الشعب.

وقد يكون من المفيد تذكير البعض بأنّ أوّل تظاهرتين سُمّيَتا بـ”أيّام قرطاج”، وهما أيام قرطاج السينمائية وأيام قرطاج المسرحية، قد أُسِّستا برؤية إقليمية مناضلة ذات بعد عربي وإفريقي بالأساس، منحاز إلى ثقافات الجنوب في مواجهة الهيمنة الإمبريالية السياسية والثقافية المسلَّطة عليها من دول الشمال (رغم أنّ هذا الالتزام سجّل بعض الإنزياح عن طريقه في السنوات الأخيرة). وبالتالي فإنّ اختيار هذه التظاهرة الجديدة، المخصّصة للرقص والكوريغرافيا، اتّخاذ نفس التسمية يُملي عليها أن تتحلّى بنفس الصفات. إذ تُعدّ هيمنة اللغة الفرنسية ومطاردتها الشرسة للُّغات المحلية (وللغة العربية تحديدا في منطقتنا) من أبرز مظاهر الهيمنة الإمبريالية المُسلَّطَة على بلادنا وعلى جزء كبير من قارّتنا والبلدان العربيّة. وهو ما يتمّ للأسف بتواطؤ، واع وغير واع، من النخب المحلّية. وكما هو معلوم، فإنّ هيمنة اللغة الفرنسية وسياسات دعم الفرنكوفونية ليست سوى إحدى أنماط سياسة القوّة الناعمة (soft power) التي تتوخاها القوى الإمبريالية، تمهيدا وتسهيلا للهيمنة الفعليّة، الاقتصادية بالخصوص.

ورغم تعبير هذه الدورة عن اهتمامها بدعم لقاءات بلدان الجنوب وبـ “التوجه للبلدان العربية والإفريقية”[5] ، فإنّني أتساءل عن معنى هذا التوجّه حين تُقصَى اللغة التي تجمعنا بالفنّانين القادمين من مصر وسوريا ولبنان وفلسطين مثلاً؟ كيف يطّلع هؤلاء الضيوف على برنامج الدورة وفحواها ويتابعون بعض فعالياتها المعتمدة على الفرنسية؟ أليست اللغة العربية القاسم المشترك بيننا وبينهم، بينما تمثّل الفرنسية تحديدا عامل التفرقة والتجزئة؟ أم صارت الفرنسية هي الجامع الجديد لشعوبنا، بمعيّة الإنجليزية؟

ختامًا، طالما أنّ الموضوع يخصّ تظاهرة ثقافية تقرن اسمها بقرطاج، تجدُر الإشارة إلى أنّ اللغة البونيقية (يعني اللغة الفينيقية بشمال إفريقيا، أو لغة قرطاج في العهد البونيقي) شبيهةٌ جدًا باللغة العربية. إذ تنحدران من نفس الأسرة اللغوية، وهي أسرة اللغات السامية [6]، التي تضم كذلك العبرانية والآرامية والسريانية من ضمن اللغات التي لازالت متداولة، عدا تلك التي انقرضت.  ولذلك يكون من الأجدر، في سياق هذه الإحالة التاريخية وفي ظلّ هذا الحنين المتزايد إلى عهد قرطاج، أن تحظى الوريثة الشقيقة للُغة قرطاج، والتي يصادف كذلك كونها اللغة الرسمية للبلاد ولغة عامة الشعب منذ ما يزيد عن الألفيّة، بالمكانة التي تستوجبها؛ وأن لا تُقصى لصالح لغة أخرى، وإن نحترمها ونحترم ثقافتها، فإنّها في الواقع فُرضت على بلادنا بفعل استعمارٍ يبدو أنّه لم ينتِه بعد.

 

[1] على سبيل المثال تظاهرة “جو تونس” التي تمولها مؤسسة كمال الأزعر http://jaou.art/  أو جمعية “تفنن” http://www.tfanen.org/ التي تنظم تظاهرة “الطوباويات البصرية ”  (utopies visuelles) والتي لم تنعقد بعد ولكنها تقتصر إلى حد الآن على اللغة الفرنسية في ومضاتها الإشهارية وفي اتصالاتها الإعلامية (أنظر مثلا  https://www.huffpostmaghreb.com/entry/premiere-edition-des-utopies-visuelles-du-5-au-22-juillet-a-sousse_mg_5b2bbd49e4b00295f15a2370 ) والأمثلة الأخرى كثيرة ومتعددة.

[2]  بشهادة وزارة التربية والتعليم التي سجلت حصول آلاف من تلاميذ البكالوريا على صفر في مادة الفرنسية بالامتحان الوطني (يضاف إليهم آلافا أخر ممن حصلوا عل 01 و 02 و 03 و 04 إلخ.) https://tinyurl.com/y9tezl8g

[3] https://tinyurl.com/ybe2f36x

[4] إن المطّلع على الارتباطات المهنية للمتدخّلين في الملتقيات الفكرية لهذه الدورة (وحتى لمنظّميها) يتبيّن فورا حجم التبعية للجامعة الفرنسية  (أنظر مثلا : http://www.institutfrancais-tunisie.com/?q=node/16525 ). كما يبدو أن عددًا لا بأس به من الفنانين المشاركين يُقيمون في فرنسا. ولا شكّ في صلة هذه التبعية الوثيقة بالتمويل. ولسائل أن يتساءل وقتئذ إنْ لم يكن قرار الاقتصار على اللغة الفرنسية، في هذه التظاهرة، من إملاءات المموّل السّخي.

[5] https://tinyurl.com/y98kpgen

[6] وهو بعض ما يفسر بالمناسبة السهولة التي انتشرت بها اللغة العربية بشمال إفريقيا

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *