رأيْ | حول حاجتنا إلى الفنّان الملتزم بقضايا شعبه!

 

منى بن حمّاد*

يقول توماس مان  “أنا لا أؤمن بتلك النظرية التي لا ترى في الفنّ إلاّ متعةً نزجي بها وقت فراغنا. وإذا كانت الإنسانية ترغب رغبةً أكيدةً في الاحتفاظ بحريتها وكرامتها، فإنّ عليها أن لاتقف موقفاً محايداً من المشاكل الإجتماعية والسياسية. والفنّان هو أكثر البشر إنسانية. ولهذا فإنّ من واجبه أن يرفع صوته عالياً مدافعًا عنها، هاباً لنصرتها، عندما تُهدّدها قوى الجهل والبطش والبربرية.”

للفنّ أهمية كبرى في المجتمعات. فهو ذو تأثير بالغ في حياة الفرد والجماعة وفي التكتلات السياسية والتماسك الاجتماعي. يعتقد كثيرون أنّه لا معانيَ للفنون ولا أهمّية لها، لكنهم لايعرفون أنّ الفنانّين يعبّرون عن مشاعرهم تجاه مجتمعاتهم وتجاه الطبيعة من خلال استخدام وسيلة فنّية أو قطعة موسيقية أو مسرحية. فالفيلم أو اللوحة الفنية أو غيرهما من الأعمال الفنية تحرّر الإنسان من الحالة التي يعيش فيها، سواء كان خوفًا أو قلقًا أو حزنًا أو أيّ مشاعر مكبوتة داخله يسمح له الفن بتفجيرها. إذ أنّ كبت المشاعر والأحاسيس يسبّب للإنسان الكثير من العقد النفسية التي يصعب التخلّص منها ويمكن أن تجرّه إلى العنف والتطرف والعدوانية.

 

“نابالم”، إحدى الأعمال الشهيرة لبانسكي، الفنّان المعادي للرأسمالية. وقد عرضت في معرض له بروما سنة 2016 بعنوان “الحرب، الرأسمالية، والحرّية”.

كما يمكن أن تعود عزلة الفنّان عن مجتمعه، وعدم الإيمان به من قبل شعبه والإحاطة به من قبل مؤسسات الدولة الثقافية، بالضرر على هذا المجتمع. إذي يرتفع جدار العزلة بين الفنّان ومحيطه، فيكفُّ عن الخلق وعن التعبير، ويختار العزلة كغريزة داخلية؛ تلك التي سمّاها طه حسين “العزلة الوحشية “. وهو ما يساهم في خلق سطحيّة ثقافيّة يسودها التهريج ويغيب فيها العمل الفنّي الذي ينهض بالإنسان ويساهم في الرقيّ والتغيير في المجتمع. ونحن اليوم إزاء منظومات حُكم تُولي الإنسان درجة ثانية، وتمنح الدرجة الأولى للمادّة ولثقافة الإستهلاك، وصولاً إلى التطبيع الثقافي مع الصهاينة، أعداء البشريّة.

فأين يكمن في ظلّ هذه الظروف دور الفنان في المساهمة في إنقاذ مجتمعه من جلّ المخاطر التي تحوم حوله من ظلامية وعنف وتطرّف وانبتات؟ وكيف يُوظَّف الفنّ من أجل الدفاع عن حقوق تضمن مجتمعا مواطنيا وإنسانا أفضل ممّا عليه اليوم وحقوقا مكتسبة؟

نجد اليوم أنفسنا ضحّية سياسات جعلت من الفنّانين تلهث وراء الشهرة والنجومية والمال أكثر من التزامها في أعمال فنية تساهم في تغيير المجتمع وتنقذ الناس وتساهم في تهذيب ذوق الأفراد.

وقد ساهم هذا في جعل الإنسان يركض وراء المادة وينسى الجانب الروحي من حياته. وهو ما أحدث فراغا في مجتمعاتنا، فانحصرت مصادر  التثقيف الروحي في المساجد والمدارس القرآنية، وزاد حجم التشدّد عوض فتح المجال لدور الثقافة ونوادي الموسيقى والسينما والمسرح. ونذكر كيف طلع علينا فجأة شيوخا صاروا سفراء لثقافة ظلامية ساهمت في جر أبنائنا الى طريق التطرف والعنف.

وهنا يظهر غياب الإرادة السياسية وتقصير السلطة في خلق مناخ ملائم لوضع مخططات واستراتيجيات لمشروع سياسة ثقافية مدنية ومواطنية. فظهر جلّيا غياب الثقافة البديلة، ممّا أفسح المجال لملاء الفراغ بثقافة التطرّف والرجوع الى الوراء عوض المضيّ قُدُمًا نحو مشروع إنسان ومواطن، ينشأ  منذ نعومة أظافره على الفكر النقدي وعلى الفن.

سياسات، تساهم في اكتشاف الفنّان ورعايته مبكّرا. فالفنّان حالة نادرة، لا تتكرّر بسهولة. لذلك وجب التخطيط والبحث لإكتشافه وصقل موهبته. وجب أيضا الإعتراف به والإحاطة به معنويا، لأنّ الفنان كائن حساس، جيّاش العواطف بطبعه، وإلّا لما تمكّن من التعبير بفنّه. فكم من فنّان توقف عن الخلق بسبب نُكران مجتمعه له. و كم من فنان وضع حدًا لحياته بسبب ذلك! هذا رغم أنّ التاريخ أثبت انتصار الفنّ على الكنيسة وعلى التعصبّ، على الفاشية وعلى النازية، انتصر الفنّ دون إراقة دماء ودون إطلاق رصاصة واحدة… لكنّ الفنّانين كثيرا ماتلقّوا رصاصات وطلقات قاتمة من شعوبهم وسُلطهم جراء تجاهلهم من قِبل مؤسسات الدولة الثقافية.

كما يعود هذا الخراب الثقافي الذي نعيش إلى غياب “المثقف العضوي “، كما سماه غرامشي (المفكّر والمناضل الشيوعي الإيطالي)، الذي يحمل هموم الطبقات الكادحة. وعليه، فإن المثقف الحقيقي هو ذاك الذي يعيش هموم عصره ويرتبط بقضايا أمته، وليس ذاك “المثقّف التقليدي” المنعزل في برجه العاجي معتقدَا بأنه أعلى من النّاس، فيظلّ بورجوازيّ الفكر، متعاليا على مجتمعه. فهو بذلك لا يخدم سوى السلطة والطبقات المهيمنة.

في ظلّ التغيّرات الإجتماعية والإقتصادية التي يشهدها العالم، وفي ظلّ توحش الطبقات الرأسمالية المهيمنة، ومع استمرار غياب ثقافة شاملة لحقوق الإنسان، نحن اليوم في أمسّ الحاجة إلى خلق البديل، وإلى اكتساح الميدان الثقافي والسياسي والتربوي والشعبي بالإنتاجات والأعمال الفنية. نحتاج إلى هذا البديل حتى لا يطغى الظلام على النور وحتى لايندثر الإنسان.

 

 

(*): سينيمائيّة، باحثة في مجال نظريّات الفنّ، وناشطة بالمجتمع المدني.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *