إختَرنا لكُم | جوزيف مسعد: عن إرث ثورة أكتوبر والنيولبراليّة عربيًا

 

سعيًا منّا لتمكين قرّائنا من الاطّلاع على أفضل ما يُنشَر عربيًا وعالميًا، أوجدنا هذا الركن الجديد :”اخترنا لكُم”. 

وستكون البداية بهذه المقابلة شديدة الأهمّية، بتقديرنا، التي أجراها الكاتب والباحث الجامعي اللبناني عامر محسن مع المفكّر والأكاديمي الفلسطيني جوزيف مسعد. والمنشورة في الأصل بجريدة ’الأخبار’ اللبنانيّة.

 

والهدف من إعادة نشر المقابلة هو تمكين قرّائنا في تونس من اكتشاف، أو تعميق معرفتهم، بالاجتهادات المميّزة لهذا المفكّر الفلسطيني، الذي لا يتردّد في التعبير، عن نقده الجريئ، المبنيّ على معرفة وبراهين، للعديد من الأفكار المسبقة وبخصوص مواضيع اشكاليّة ذات صلة بواقع مجتمعاتنا. ومن أهمّ ما تطرّق إليه مسعد في هذه المقابلة مواضيع كـ : تقييم إرث التجربة الشيوعية السوفييتيّة في الذكرى المائوية لثورة أكتوبر؛ دور “المنظّمات غير الحكوميّة” في الوطن العربي وبلدان الجنوب عمومًا؛ مدى هيمنة الثقافة النيوليبراليّة على مثّقفي ونشطاء بلداننا وتحديدها لأولويّاتهم والخ.

 

■ مكاسب الشعوب التي أوصلت إليها ثورة أكتوبر تكاد تختفي

■ أدّت «الصيغة النيوليبرالية» إلى دحر مبادئ التضامن العالمي

■ احتواء النشطاء السياسيين حوّلهم إلى موظفين في المنظمات غير الحكومية

في الذكرى المئوية للثورة البلشفية والسياق العربي والعالمي اليوم، أجرت «الأخبار» حواراً مع الباحث الفلسطيني جوزيف مسعد. وهو أستاذ السياسة وتاريخ الفكر العربي الحديث في جامعة كولومبيا في نيويورك؛ وقد تناولت كتبه ومقالاته مواضيع مثل بناء الهوية الوطنية في الأردن، والمسألة الفلسطينية، والإسقاطات الغربيّة وتشكيلها لمسائل الجنسانية لدى العرب. وقد نُشر كتابه الأخير «الإسلام في الليبراليّة» عن دار جامعة شيكاغو عام 2015، وهو يناقش تكوّن الليبراليّة الغربية المعاصرة وثقافتها، ودور «الإسلام» (كـ«آخر غير ليبرالي» بالنسبة الى الغرب) في هذه العملية.

عامر محسن

■ ما هو المعنى السياسي لاستذكار ثورة أكتوبر، ونحن في سياقٍ تاريخيٍّ مختلفٍ تماماً؟ ماذا تعني الثورة الشيوعيّة التي قامت في روسيا منذ قرن لنا كعربٍ اليوم؟

ــ أهم ما تقدمه الثورة الروسية هو الأمل بأن مقاومة الرأسمالية والاستبداد والغبن يمكنها أن تنتصر وأن تؤسس لمجتمع جديد يهدف إلى مأسسة العدالة الاقتصادية والاجتماعية وتأسيس منظومة اجتماعية وثقافية جديدة. كان هذا الإنجاز مثالاً يحتذى به في العشرينيات التي ترعرعت خلالها الديموقراطية السوفياتية، رغم كل النقد الذي وجّه إليها في حينها ويوجّه إليها اليوم.

وأهم هذه الإنجازات التي استمرت في الاتحاد السوفياتي لحين سقوطه هي الحقوق الاقتصادية الرئيسة التي قدمها: الحقّ في العمل، الحقّ في التعليم المجّاني، الحقّ في العناية الطبيّة والصحيّة المجانيّة، الحقّ في السكن، الحقّ في توّفر الحضانات المجّانيّة للأطفال، الحقّ في الثقافة عبر توفير الكتب والمسارح والعروض بأسعار زهيدة في متناول الجميع، وهي حقوق لا تزال معظم شعوب العالم محرومة منها، بمن فيها شعب الولايات المتحدة. لكن تجدر الملاحظة هنا هو أنه لولا الحركات الاشتراكية والشيوعية، لما حظي الكثير من شعوب الأرض حتى بالإجازة الأسبوعية وبتحديد ساعات العمل، ناهيك عن التعليم المجاني المحدود والعناية الصحية المحدودة، وهي مكاسب تضاءلت وضمرت منذ سقوط الاتحاد السوفياتي وتكاد تختفي تماماً في معظم البلاد التي أجازتها استجابة لـ، أو خوفاً من، الثورة الشيوعية.

فما قدمته الأنظمة الاشتراكية والرأسمالية العربية من دعم في مجالَي التعليم والصحة لشعوبها، من نظام يساري كعبد الناصر أو أنظمة البعث، إلى أنظمة يمينية كنظام الملك حسين ونظام بورقيبة، بما فيها «الخطط الخمسية» للتنمية، كانت نتيجة رواج النموذج السوفياتي. وهذا بالضبط ما كانت عليه الحال في الولايات المتحدة التي كانت ترزح تحت حكم الفصل العنصري حتى السبعينيات. فقد نجحت نساء الولايات المتحدة في الحصول على حق الاقتراع نتيجة الثورة الروسية وتحريرها للمرأة السوفياتية، كما أن تحوّل الدولة الأميركية تحت حكم روزفلت إلى دولة رفاه اجتماعي في الثلاثينيات والأربعينيات وما بعد كان لدرء الخطر الشيوعي في زمن كان فيه نصف مليون أميركي أعضاء في الحزب الشيوعي. أما إنهاء نظام الفصل العنصري الذي بدأ تفكيكه في عام ١٩٥٤، عبر إنهاء الفصل العرقي في المدارس الأميركية في قضية «براون ضد المجلس التعليمي»، فقد كان توقيته مركزيّاً من أجل تسويق الولايات المتحدة كدولة غير عنصرية ونموذج للعالم الثالث، الذي كان يحرز استقلاله في تلك الفترة من الاستعمار والعنصرية الأوروبيين، وكي تثنيه الولايات المتحدة عن التحالف مع الاتحاد السوفياتي؛ بما معناه أن معظم التغييرات التقدمية التي حصل عليها الشعب الأميركي منذ العشرينيات حتى السبعينيات، والتي حصل عليها الشعب العربي في كثير من بلدانه كانت بفضل الثورة الروسية، وقد بدأ كل هؤلاء بخسارة معظم هذه المكاسب منذ تقهقر السوفيات في الثمانينيات وسقوطهم. ولا يعني هذا أن الثمن الذي دفعته الشعوب السوفياتية للحصول على هذه الحقوق لم يكن باهظاً، لكنه يعني أن الثمن الذي تدفعه منذ أن خسرت هذه الحقوق في عام ١٩٩١، عندما تم إفقارها في أغلبيتها، يفوق ذلك بأضعاف.

■ انبثقت عن نظام ثورة أكتوبر أيديولوجيا مضادّة تحمل، مثل الليبرالية، ادّعاءات كونيّة، وتزعم تقديم مشروعٍ بديلٍ يقدّم حلّاً لكامل البشريّة بلا تفريقٍ بين القومية والعرق. لا نجد اليوم، مقابل الرأسمالية الليبرالية، حركات بهذه الصّفات، فهل وجودها ضرورةٌ لتغيير النّظام القائم، أم أنّنا سنشهد في وجه العولمة، كما يتنبّأ البعض، تشظّياً مستمرّاً للهويات وانكفاءً انعزالياً داخل الحدود القومية في الغرب وفي الشرق؟

ـــ لم تهدف الحرب الشعواء التي شنتها القوى الرأسمالية على الدول الاشتراكية والدول المناهضة للإمبريالية على مدار القرن العشرين، والتي انتصرت فيها أخيراً في الصيغة النيوليبرالية، التي جرى التأسيس لها في السبعينيات والتي امتدت عالمياً منذ الثمانينيات، إلى دحر التهديد الاقتصادي للمبادئ الاشتراكية فحسب، بل أيضاً إلى دحر مبادئ التضامن العالمي ضد عدو مشترك. فإذا كان مبدأ شيوعيي الاتحاد السوفياتي إبان الحرب العالمية الأولى التي انسحبوا منها فور انتصار الثورة هو أنه لا يوجد وطن لرأس المال، وأنه بالتالي ذلك ما يجب أن ينطبق على الطبقة العاملة التي يُطلب منها أن تحارب في حروب تدرّ أرباحاً على الطبقة الرأسمالية فحسب.

وإذا كانت حركة عدم الانحياز وحركة المؤتمر الآسيوي ــ الأفريقي التي انبثقت عن مؤتمر باندونغ نادت بوحدة دول الجنوب ضد مضطهديها من دول الشمال، كما نادى الوحدويون العرب بتوحيد الدول العربية، فقد وصلنا اليوم، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، إلى وحدة مختلفة، ألا وهي وحدة الأيديولوجيا الليبرالية السياسية التي تعتنقها الطبقة النافذة من مثقفي العالم الثالث، محاكية ليبراليّي أوروبا والولايات المتحدة، وعقيدة النيوليبرالية التي اعتنقتها أو أجبرت على اعتناقها دول العالم أجمع منذ الثمانينيات وباطراد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، باستثناء كوريا الشمالية وبعض الأنظمة المقاومة للنيوليبرالية قي أميركا اللاتينية التي لا تزال تتآمر عليها الولايات المتحدة حتى يومنا هذا من خلال محاولات انقلابية وعقوبات اقتصادية ودعم المتمردين المحليين المتحالفين معها ماليًاً وإعلاميًاً.

بالطبع، كان وجود هذه الحركات قد حدّ من التوسع الإمبريالي اقتصادياً ومن التوسع الليبرالي أيديولوجيّاً وفكريّاً، واندحارها أدى إلى توسّع الاثنين على نحو غير مسبوق كما نشهد اليوم. ما نتج من ذلك هو استجابة للمنظومة الليبرالية والنيوليبرالية التي تتبنى الحقوق الهوياتية وتُقصي الحقوق الاقتصادية، حيث إن الأولى يتم استغلالها للتسويق الرأسمالي بإنشاء أسواق وبضائع تستهدف القوة الشرائية لحَمَلَة هذه الهويات الناشئة والعابرة للأوطان، وأيديولوجياً لتدلّ على إنسانية الليبرالية التي تدافع عن الأفراد وهوياتهم.

وهذا هو بالتحديد دور المنظمات غير الحكومية التي تدافع عن هويات عالمية تضفي عليها طابعاً محلياً هي من يسوق لها أصلاً، وفي بعض الأحيان هي من يخترعها، بحسب أجندات إمبريالية يتم التخطيط لها في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية. وحلّت هذه المنظمات محل المجتمع المدني المحلي الذي كان النشطاء السياسيون في السابق جزءاً منه واحتوت الكثير منهم برواتب عالية أدت إلى تسريح العمل والنشاط السياسي القائم ونقل أي نشاط سياسي جديد إلى بوتقة هذه المنظمات التي تتبع استراتيجيات من يموّلها من الخارج. وبالتالي استبدل المنهج التنموي الاشتراكي المناوئ للرأسمالية بالقوى المحلية المتعاونة مع الإمبريالية، ولا سيما البورجوازية الكمبرادورية والمثقفين المستفيدين منها. وهكذا عندما يتم التدخل الإمبريالي على أي صعيد في بلاد العالم الثالث، تُقدّم الحجة بأن المجتمع المدني المحلي، الذي هو صنيعة الإمبريالية، هو من طالب به. أما العدالة الاقتصادية والاجتماعية فيعاد تأطيرهما من هذا المنظور الليبرالي عبر ما يسمى منابر «الحقيقة والمصالحة» كما حصل مثلاً في جنوب أفريقيا، وكما يطالب «محبو السلام» بأن يحصل بين الفلسطينيين والإسرائيليين، أو بين القوى السياسية المتناكفة في مصر وتونس واليمن وسوريا، إلخ.
وهنا يصبح الحقل الثقافي (ولا سيما الفن، بما فيه الرسم، والموسيقى، والسينما، والأدب) من أهم ما يسوّق عالمياً إن ثبت أنه يتبع المبادئ الثقافية والفنية الغربية – النسوية البورجوازية البيضاء أميركية الصنع، حقوق المثليين كحاملين لهوية حدّدها لهم مثليون بيض أميركيون وغرب أوروبيون (ويسعون بمعية الأخيرين إلى تحرير غيرهم ممن يصفونهم بالمقموعين جنسيّاً، حتى لو رفض الأخيرون هوياتهم وزعمهم التحريري)، والنضال من أجل الحق السياسي بالتعبير عن الذات (ولكن ليس الحق بإعادة توزيع الثروات)، أو المطالبة بالديموقراطية السياسية (وعدم المطالبة بالديموقراطية الاقتصادية). وهنا نرى كيف يعمل القائمون الغربيون على تسويق الفن بتحديد ما يمكن اعتباره فناً مصرياً أو فلسطينياً أو هندياً يستحق التسويق عالمياً، أو أدباً أو سينما جزائرية أو سورية تستحق أن تدخل سوق الثقافة العالمية، وتذكرة الدخول هي الوحدة الأيديولوجية الليبرالية التي يتبعها هؤلاء، بغض النظر عن استشراقها وعنصريتها في تصويرها للعالم غير الأبيض. وهنا يتم دخول هذا الفن والأدب لا كفن وأدب عالميين كالفن والأدب الغربيين، بل كفن وأدب فولكلوري – مصري، هندي، فلسطيني، أو ما هو أكثر عنصرية، «أفريقي»).
إذاً، انحسار الفكر الوحدوي في وجه الإمبريالية والرأسمالية أدى إلى تحالفات أوسع، ليس فقط بين البورجوازيات الكمبرادورية التي تعاونت مع الاستعمار قبل الاستقلال وبعده، لكن أيضاً بين قسم كبير من المثقفين والفنانين والنشطاء السياسيين في العالم الثالث (الذين كانوا في أغلبهم في طليعة المناهضين للإمبريالية قبل سقوط الاتحاد السوفياتي) مع نظرائهم في الغرب الإمبريالي. وهنا يجب التشديد على أن احتواء النشطاء السياسيين حوّلهم إلى موظفين في المنظمات غير الحكومية، وإن كانوا يدّعون زوراً وبهتاناً بأنهم لا يزالون نشطاء، وهو زعم يهدف إلى التمويه والتغطية على الدور الإمبريالي الذي يلعبونه.
في غياب حركات وحدوية (بمعنى أنها حركات تعي أن ما يعانيه الفقراء المصريون هو ما يعانيه فقراء البرازيل وفقراء الهند وفقراء المغرب، وفقراء المكسيك، وفقراء جنوب أفريقيا، إلخ، وأن المسؤول عن هذا الفقر هو الطرف نفسه والبنية الاقتصادية نفسها) ترتكز في أولوياتها على محاربة إفقار معظم شعوب الأرض على يد حفنة من المليارديرات تحميها الدول الإمبريالية وجيش عرمرم من المثقفين وصانعو الرأي في وسائل الإعلام أنتجتهم بنية اقتصادية وسياسية واجتماعية جعلت كل هذا ممكناً، سيكون من الصعب على أي مقاومة أن تقف بالمرصاد لهذا الظلم.
وهنا يتم طمس دور الشيوعية والاتحاد السوفياتي في القرن العشرين (ولا سيما من قبل الليبراليين الذين يطرح بعضهم أنفسهم على أنهم مناهضون لرأسمالية منفلتة ويطالبون بإصلاحها) أو حتى بأنها كانت قد كوّنت التحدي الأقوى للقوى الرأسمالية وحددت معالم كل أحداث القرن، ويذكروننا بضحايا الأنظمة الشيوعية، الحقيقيين منهم والمُتخيّلين (فمثلاً علينا أن نتضامن مع ملّاك الأراضي الذين أرادوا تجويع المدن السوفياتية في أواخر العشرينيات، ما اضطر النظام إلى الاستحواذ على محاصيلهم بالقوة ومنع مجاعة وشيكة، بنفس المقدار الذي نتضامن فيه مع عشرات الآلاف من الشيوعيين الذين عمد ستالين الى قتلهم في عملية التطهير المخيفة الذي قام بها في أواخر الثلاثينيات داخل الحزب الشيوعي وفي مؤسسات الدولة)، من دون أن يذكروا ضحايا الإمبريالية الليبرالية منذ أواخر القرن الثامن عشر التي لا مجال لمقارنة أعدادها الهائلة بالأرقام الحقيقية ولا المتخيلة لـ«ضحايا» الأنظمة الشيوعية. أحدث مثال على هذه المنظومة الدعائية هو التغطية الإعلامية المعادية للاشتراكية في فنزويلا، حيث يتم التعتيم على ضحايا الإرهاب الموالي للولايات المتحدة والذي يستهدف نظام الرئيس مادورو ويضخّم حجم «ضحايا» النظام بشكل خيالي.

أهم ما تقدمه الثورة الروسية هو الأمل بأن مقاومة الرأسمالية والاستبداد والغبن يمكنها أن تنتصر

■ تكلّمت، في كتابيْك الأخيريْن، عن تطوّر مراحل الهيمنة الليبرالية وتأثيرها على الهويّة وثقافة الحقوق ومفهوم السياسة، وانتقدتَ ما اعتبرته «أجندة امبريالية» في دول الجنوب، تنشرها منظّمات مدعومة من الحكومات الغربيّة وتعمل على قضايا مثل الهويّة والحوكمة والمساواة بين الجنسين، وأنت تقول إنّ هذه المنظّمات تسعى الى تحويل قيمٍ غربيّة، منبثقة من ثقافة الطبقى الوسطى في اميركا، الى قيمٍ كونيّة وفرضها على العالم. لماذا تعتبر أنّ هذه المفاهيم (عن الجنسانية أو الحوكمة أو الديمقراطية أو الحقوق الشخصية) لا يمكن «الاستحواذ» عليها وأن تكون جزءاً من أجندة تحرّر ومساواة في المستقبل؟ لماذا علينا أن نفهم هذه الثقافة والقيم، بغض النظر عن مصدر نشأتها، على أنّها مرتبطةٌ حكماً بالمشروع الاقتصادي الرأسمالي والتوسّع السياسي الغربي؟

ـ كما أشرت في كتابي الأخير، الإسلام في الليبرالية، إن الفكر والحركات التي تطالب بمقاومة اضطهاد المرأة والتمييز ضدها ليست محصورة بالفكر الليبرالي ولا في أجندة المنظمات غير الحكومية التي انتشرت منذ الثمانينيات، بل تسبقها بقرن كامل على الأقل. فما يسوّق على أنه تحرير المرأة اليوم من قبل هذه المنظمات والمروّجين المحليين لها ليس بجديد، بل هو مرتبط بحركات تشبهها رعتها الكولونيالية منذ أواخر القرن التاسع عشر وتواطأ معها الكثير من المثقفين الليبراليين حينها، لكن معظم الحركات النسائية في بلادنا، وبلاد العالم الثالث بشكل عام، قاومت هذه الأجندة منذ العشرينيات وطرحت مشاريع أخرى لإنهاء اضطهاد المرأة من قبل الاستعمار والبطريركية العالمية والمحلية والرأسمالية. وقد حافظت الحركات النسائية في عالمنا على نهجها هذا المناوئ للأفكار الليبرالية حتى الثمانينيات.

وكان الاتحاد السوفياتي (الذي، كما أبيّن في كتابي الأخير، اتبع في العشرينيات نهجاً استشراقياً في التعامل مع المسلمين السوفيات، ولا سيما مع المرأة السوفياتية المسلمة، وإن كان تبنّى صيغة اشتراكية لتحرير نساء العالم الثالث، بما فيه النساء المسلمات بعد الخمسينيات) ودول أوروبا الشرقية ومنظماتها النسائية حلفاء مركزيين للحركات النسائية في العالم الثالث المناوئة لليبرالية الإمبريالية ورفض الأخيرة للفكر النسوي الليبرالي. كانت الأمم المتحدة هي المنبر الأهم لهذا النزاع، خصوصاً في المؤتمرات التي عقدت منذ عام ١٩٧٥ حتى ١٩٩٥ وما بعد للنظر في هذه المسألة.

لكن بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وتفشّي الفكر الليبرالي والاقتصاد النيوليبرالي، انهارت المنظمات المناهضة للنسوية الليبرالية أو تم احتواؤها، وتحولت أهم ناشطاتها إلى مديرات لمنظمات غير حكومية تدرّ عليهن أرباحاً ويقمن بالتسويق للفكر الليبرالي، غير آبهات بعدم جدواه في تحرير النساء ككل بل مُركِّزات على مقدرته على «تحرير» بعض النساء، دون أن يذكرن أن بعض النساء قد تم «تحريرهن» على حساب أكثرية النساء. وها نحن بعد ربع قرن على الأقل منذ إنشاء هذه المنظمات نجد أنفسنا أمام استمرار وتعزيز الاضطهاد لمعظم النساء على جميع المستويات، مع تحرير جزئي لنساء الطبقات العليا المستفيدة من النيوليبرالية، كما تبين الكثير من الدراسات النسوية، لا سيما عن نساء الولايات المتحدة وأوروبا، وليس فقط نساء العالم الثالث.

إذاً المشكلة في هذه الأجندة الإمبريالية التي تدّعي أن من يناهض المنظمات والأجندة النسوية الأميركية الليبرالية هو كاره للنساء وجنسوي ومعاد للمرأة، والتي تشبه الدعاية الصهيونية التي تزعم أن من يعادي الأجندة الصهيونية لاسامي ومعاد لليهود؛ وهذا ما ينطبق أيضاً على المروّجين للهويات المثلية الغربية حول العالم وأجنداتهم الإمبريالية، حيث يَصمون من يقاومهم برهاب المثلية والفكر الجنسي المحافظ، بينما هم من ينادون بتحديد العلاقات الجنسية واللذة الجنسية والممارسات الجنسية بهويات ينبغي على ممارسيها تبنّيها وينبغي على الدولة النيوليبرالية تقنينها.

نحن أمام هجمة شرسة هي جزء من دعاية عالمية تختزل التحليل والفكر بشعارات سطحية واهية يتبناها ليبراليونا على أنها قمة العمق والتحليل الفكري والمفاهيمي، وهذا ما يدخلنا في عالم أورويل، حيث تصبح سيطرة الدولة والقانون والمجتمع والمنظمات غير الحكومية على اللذة الجنسية وفرضها الهوّيات الجنسية على كل من يمارس الجنس تحريراً من القمع! هنا نجد أيضاً أن الثورة الروسية أخفقت في استنباط فكر جنسي تحريري في العشرينيات. فبينما ألغت الثورة على الفور القوانين التي جرّمت العلاقات المثلية الجنسية في المناطق الأوروبية من الاتحاد (قام ستالين بإعادة تجريمها في عام ١٩٣٤)، قامت بتجريم هذه العلاقات في المناطق الآسيوية ذات الأغلبية المسلمة على أنها قائمة بين رجال راشدين ومراهقين. نجد رديفاً لهذه الأجندة الاستشراقية اليوم في التغطية الإعلامية الغربية لأفغانستان، حيث يقوم الأمميون المثليون، كما سمّيتهم في كتابي اشتهاء العرب، بالتنديد بالتجريم القانوني الأفغاني للعلاقات المثلية التي تحاكي النموذج الغربي ويطالبون في الوقت نفسه بتجريم العلاقات المثلية بين الرجال والمراهقين.

في هذا السياق، يتضح أن نموذج الحريات الجنسية الذي يسوّقه الغرب ومنظماته في بلادنا يرتكز على مفهوم غربي من الحرية يعتمد سن الرشد على أنه سن الرشد المعتمد غربياً، و يُفرض علينا على أنه سن الرشد العالمي، وهو ما ينطبق مثلاً على إصرار هذه المؤسسات على عدم تزويج «الأطفال» للـ«راشدين» (حيث يتبع مفهوم الطفل والراشد أيضاً النموذج الغربي). فمثلاً يصبح من المستحيل على ابن الثالثة عشرة وابنة الثالثة عشرة أن يتزوجا، لكن من الممكن أن تتزوج ابنة الثامنة عشرة من ثمانيني، على مبدأ أن زواج الأوّليْن ظلم للأطفال أما زواج الأخيرين فباختيارهما! تفوح المغالطات والتناقضات من هذا الفكر الذي يدّعي أنه يسعى لرفع الغبن عن الناس، بينما يطالب الدولة وآلياتها القمعية بعقاب من يشذّ عن القاعدة الغربية للعلاقات والهويات الجنسية أشد عقاب. ففي الولايات المتحدة مثلاً، إن قامت علاقة جنسية بين رجل وامرأة أحدهما في السابعة عشرة من العمر والآخر في الخامسة عشرة برضاهما، يعاقب ويسجن الأكبر سناً كمغتصب ويمضي حياته بعد خروجه من السجن كشخص موصوم بالاغتصاب، وعليه أن يُعلم مركز الشرطة المجاور لسكنه بعنوانه وتعمّم الشرطة على كل سكان المنطقة أنه جارهم كي يحترزوا منه.

ليس هذا بنموذج تحريري ولا يرفع القمع الجنسي ولا الاضطهاد الجنسي عن المرأة أو المثليين، بل يعزز سلطة الدولة النيوليبرالية وقمعها. وهنا يجدر التذكير بأن الولايات المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ودول أوروبا الغربية لا تطالب الدولة النيوليبرالية في العالم الثالث بتقليص نفقاتها الأمنية والشرطية (بل على العكس تقوم معظم «المساعدات» الأميركية والأوروبية للدولة النيوليبرالية في العالم الثاث على تعزيز القوة العسكرية القمعية للجيش والشرطة وعلى إغداق المليارات عليها لقمع «الإرهاب» والمحافظة على الأمن الاقتصادي)، بينما تطالبها بتقليص كل برامجها الاجتماعية والدعم الاقتصادي الذي تقدمه للفقراء.

إذاً، بينما تقوم المنظمات غير الحكومية وأربابها من الليبراليين بالتسويق للـ«حريّة» السياسية والفردية (بما فيها الجنسية) وتحت هذه المسميات تطالب الدولة بالسيطرة القانونية على العلاقات والهويات السياسية والجنسية، إلخ، تقوم الدول الإمبريالية والبنك الدولي وصندوق النقد بتمويل الدولة لتعزيز القمع وإفقار الناس وحماية أثرياء النيوليبرالية منهم (لا يمكن مثلاً أن تطالب هذه المنظمات بفرض ضريبة «ربح رأس المال» أو capital gains على الأغنياء في بلادنا مثلاً، ما يعنيه أن الثري في بلادنا الذي يشتري عقاراً بمائة ألف دولار ومن ثم يبيعه بمليون يضع الربح في جيبه من دون دفع أي ضريبة عليه).

إذاً، ليس الموضوع هنا أن هذه هويات وسياسات غربية يجب رفضها لأنها غربية كما يروّج بلهاء الليبراليين (فالفكر الاشتراكي مثلاً غربي المنشأ)، بل لأنها هويات وسياسات إمبريالية تسعى لإزالة مكوّنات قائمة في مجتمعاتنا تقف في طريقها، ابتداءً من الدعم الاقتصادي والحقوق الاقتصادية التي كانت الدولة تقدمها وترعاها، وطبيعة النشاط السياسي وتوجهاته، وإدراك مفهوم اللذة والممارسات والهويات الجنسية، والمبادئ التحريرية للتخلص من الظلم الاجتماعي والاقتصادي، واستبدالها من قبل الليبراليين بما يتماشى مع الاستراتيجية الإمبريالية. ولا يعني هذا أن ما هو قائم في بلادنا مثاليّ وخال من الظلم والاضطهاد، بل ما يعنيه هو أن ما يفرض علينا لاستبداله أسوأ منه بكثير. وبما أن بعض هذه المنظمات غير الحكومية تتحدى في بعض الأحيان الأنظمة القائمة على انتهاكها «حقوق الإنسان» (ولا تقوم بتحدّيها على إفقار الناس وتجويعهم)، فهذا فقط كونها تتنافس مع النظام القائم على نيل رضى ليبراليي الولايات المتحدة وأوروبا الغربية الذين يموّلونها والذين تنادي امبرياليتهم في بعض لأحيان باستبدال النظام المستبد الذي يخدم الإمبريالية بنظام آخر أقل استبداداً يخدم مصالحها أيضاً عبر الاستمرار في إفقار الناس.

■ في العقود الأخيرة، وخارج تجارب سياسيّة محدودة أكثرها في أميركا اللاتينيّة، أصبح جزءٌ كبيرٌ من النقاش حول الاشتراكية والماركسية والثورة «أكاديميّ» الطابع، تسهم فيه أساساً الأكاديميا الغربيّة. مثلما كان فوكو ينتقد الباحثين الذين يفكّكون كلّ المؤسسات من حولهم باستثناء تلك التي أنتجتهم، هل تعتقد أنّ الأكاديميا الغربية تصلح لأن تكون مصدراً لهذه الأفكار الجديدة لشعوب العالم؟ كيف نتوقّع أن تخرج من مؤسسات غربيّة، مرتبطة بشكلٍ وثيق بالدولة والرأسمالية في بلدها، نظريّات راديكاليّة أو تقدميّة بحقّ؟

ــ بينما ترتبط المؤسسة الأكاديمية في معظم تخصصاتها بالدولة والمصالح الرأسمالية في الولايات المتحدة (الأقسام العلمية والأدبية منها)، مثل ارتباط التخصصات الهندسية والعلمية بالمؤسسة العسكرية عن طريق اختراع الأسلحة والآليات والتكنولوجيا العسكرية (بما فيها الأسلحة البيولوجية والكيميائية)، ترتبط العلوم الاجتماعية أيضاً بالمؤسسة العسكرية (مثل علماء النفس الذين يطورون وسائل التعذيب الجسدي والنفسي ومقدرة الإنسان على تحمّل أو عدم تحمّل أنماط مختلفة من التعذيب، وعلماء الإناسة الذين يزوّدون المؤسسة العسكرية والسياسية بـ«معرفتهم» في الثقافات المحلية كي يستغلوا «نقاط الضعف» فيها، كما كانت المشورة التي قدموها لتعذيب العراقيين في سجن أبو غريب، كما بيّنت الوثائق الرسمية الأميركية)، وعلماء السياسة والاقتصاد والقانون الذين يعملون كمستشارين للدولة ومؤسساتها، وكمروّجين لها. لكن كل هذا التواطؤ والتعاون لم يسلب الحيّز الأكاديمي من استقلالية علمية محدودة يستطيع فيها بعض الأكاديميين تقديم فكر مخالف ومناهض وناقد لكل ما هو قائم، وتشجع الدولة ورأس المال في الكثير من الأحيان هذا الإنتاج للاستفادة منه والتصدي له إن تحول إلى مبادئ سياسية يعتنقها أعداؤها.

ويجب التنبه في هذا السياق إلى أن الثقافة المهيمنة في الولايات المتحدة وفي إعلامها «الحرّ» معادية جداً للفكر وللأكاديميين تحت حجة أنهم نخبويون ومتعالون، إلا إن كانوا يدعمون سياسة ما هو قائم أو يقدمون أفكاراً لتعزيزه أو تحسينه (وينطبق هذا على معظم الأكاديميين الأميركيين في تخصصات العلوم الاجتماعية والإنسانية)، ورغم ذلك، تبقى الفكرة المهيمنة هي أن الأكاديمية مليئة بالراديكاليين. وليست الفكرة الأخيرة من بنات أفكار اليمين الأميركي الصاعد، بل هي متجذرة في الإعلام الليبرالي «اليساري» من قبله.

هنالك ظاهرة غريبة أودّ الإشارة إليها في هذا الصدد، وهي غياب سمة لا تجدها عند أكثر الأكاديميين الأوروبيين والأميركيين البيض، بغض النظر عن مدى راديكاليتهم ويساريتهم، وهي أنهم لا يعانون أبداً من الكره الذاتي، وهو ما يختلف تماماً عن طبقة المثقفين العرب، الليبراليين منهم و«اليساريين». فرغم أن الولايات المتحدة قتلت، مباشرة أو عن طريق أعوانها، ما يزيد على ٢٥ مليون شخص حول العالم منذ الحرب العالمية الثانية، وأن تاريخها قائم على قرن من العبودية تبعه قرن من الفصل العنصري، تبعه نصف قرن من التجريم العنصري، وأن ثقافة كراهية النساء تؤدي إلى قتلهن من قبل أزواجهن أو عشاقهن بنسب أعلى من أعلى نسب ما يسمى «جرائم الشرف» في العالم العربي، وغيرها من المظالم والقمع، فكل هذا لم يستدع أي كره ذاتي عندهم، بل يتواصل عند أغلبهم شعور بفخر ما بمجتمعاتهم وإنجازاتها رغم الثمن الباهظ الذي دفعه ويدفعه جزء كبير من مجتمعاتهم وأغلبية شعوب الأرض لتحقيق هذه الانجازات. تجد مثلاً المنظّرة السياسية في جامعة بيركلي وندي براون في كتابها الأخير الناقد للنيوليبرالية تدافع عن النظام الليبرالي الأميركي الذي تحاجج بأن النيوليبرالية تشكّل خطراً عليه. ورغم أن براون تعدد مساوئ الليبرالية المخيفة وتاريخها المشين وضحاياها، إلا أنها تعتقد أن مبادئها قابلة للتطوير وتستحق الدفاع عنها، وهي حجة لا تقدم دفاعاً عن الاشتراكية مثلاً أو عن مبادئها ولا عن المزايا الإيجابية للاتحاد السوفياتي الذي أعطى حقوقاً اقتصادية مركزية لمواطنيه، والذي يمكن رفض مساوئه والأخذ يإيجابياته مثلاً التي تستحق الدفاع عنها أكثر بكثير من الإيجابيات المزعومة للنظام الليبرالي الأميركي. أما الأنثروبولوجية في جامعة كولومبيا (وهي الجامعة نفسها التي أعمل فيها ومن المعروف أنها قد تأسّست من أرباح تجارة الرقيق) إليزابيث بوفينيللي، مثلاً، فقد كتبت كتاباً منذ بضع سنوات عن الرأسمالية والنيوليبرالية في القرن العشرين لا تذكر فيه الشيوعية أو الاتحاد السوفياتي حتى عرضاً.

على الرغم من هذا، نتيجة المصادرالبحثية والمالية التي توفرها هذه الجامعات، فإن إمكانية البحث فيها والإبداع (وإن كان المفهوم الأخير يستخدم على نحو مبتذل في سياقات كثيرة) أكبر منها في جامعات لا تحصل على هذا الدعم والتمويل. ولا يعني هذا أن الإنتاج المعرفي في هذه الجامعات ككل لا يخدم مصالح الدولة الأميركية ورأس المال، ما يعنيه أن هنالك جيوباً فيه تستفيد من الاستقلالية النسبية المتوافرة لانتاج معرفة نقدية ومقاومة. فلا يمكننا أن نقبل بمقولة أن مكان إنتاج الفكر والنقد يحدد طبيعته بالضرورة. فالكثير من الفكر المساند للإمبريالية والفكر الاستشراقي ضد الشرق والعرب والمسلمين يصدر عن مثقفين عرب وهنود، مسلمين وغير مسلمين، يسكنون في العالم العربي أو الهند مثلاً ويعملون في جامعاته، وإن كانت أكثريتهم تمتهن الصحافة أو تعمل في المنظمات غير الحكومية (لا سيما الحقوقية منها) حيث المال والتربح أكثر بكثير من العمل الأكاديمي، بينما هنالك عدد كبير من المناوئين للإمبريالية والاستشراق والرأسمالية يعملون في جامعات غربية.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *