اضرابات الاتّحاد من أجل “السيادة”: بين حسابات البيروقراطيّة وآمال الثوريّين…

يُعدّ قرار قيادة اتحاد الشغل شنّ اضراب عامّ جديد بالقطاع العامّ والوظيفة العموميّة الشهر المقبل خبرًا هامًا، قد يمثّل محور الجدال السياسي والشعبي طيلة الأسابيع المقبلة. إلّا أنّ ذلك لا يعني أنّ ثورة جديدة على الأبواب ولا أنّ مطلب استرداد السيادة الوطنية صار قاب قوسين أو أدنى من التحقّق. بل هو يعني أساسًا أنّ الصراع بين أجنحة النظام لم يُحلّ بعد. وأنصار الثورة معنيّون ضرورة باحتمالات تفاقم هذا الصراع الثانوي وما يمكن أن يفتحه من آفاق، لكن على شرط أن يدركوا حقيقة أبعاده وحدود ممكناته، بعيدًا عن الأوهام والتمنيّات.


أوّلاً، يجب التذكير بأنّ هنالك ما يشبه الصفقة التاريخية غير المُعلنة، خاصّة منذ بداية السبعينات (التي شهدت الولادة الفعليّة للبرجوازية الكمبرادورية في تونس بفضل سياسات الهادي نويرة) بين قيادة اتحاد الشغل وقيادة البرجوازية (في اتحاد الأعراف وفي السلطة). ومفادها هو أنْ تضمن البرجوازية (أساسًا تحالف برجوازية الساحل والعاصمة المسيطر تاريخيا على الدولة) لجزء من الطبقة الوسطى، بقيادة أبناء الشرائح المتعلّمة للجهات المُهمّشة (أساسًا الوسط والجنوب الشرقي والشمال الغربي) الاستفادة اقتصاديًا من القطاع العامّ والوظيفة العمومية، مقابل أن تطلق الثانية (أي البرجوازية الصغيرة المرتبطة اقتصاديًا بالدولة) يد الأولى لاستغلال أبناء الطبقة العاملة في القطاع الخاصّ.
هذا دون العودة إلى التحالف التاريخي، الذي جمع في فترة “النضال الوطني ضدّ الاستعمار” المباشر، بين قيادة الاتحاد والشقّ “الحداثي”/ المرتبط بالغرب من البرجوازية في وجه ممثّلي “المجتمع القديم”/المحافظين من جهة، وضدّ الشيوعيين من جهة ثانية.


أوّلاً، يجب التذكير بأنّ هنالك ما يشبه الصفقة التاريخية غير المُعلنة، خاصّة منذ بداية السبعينات (التي شهدت الولادة الفعليّة للبرجوازية الكمبرادورية في تونس بفضل سياسات الهادي نويرة) بين قيادة اتحاد الشغل وقيادة البرجوازية (في اتحاد الأعراف وفي السلطة). ومفادها هو أنْ تضمن البرجوازية (أساسًا تحالف برجوازية الساحل والعاصمة المسيطر تاريخيا على الدولة) لجزء من الطبقة الوسطى، بقيادة أبناء الشرائح المتعلّمة للجهات المُهمّشة (أساسًا الوسط والجنوب الشرقي والشمال الغربي) الاستفادة اقتصاديًا من القطاع العامّ والوظيفة العمومية، مقابل أن تطلق الثانية (أي البرجوازية الصغيرة المرتبطة اقتصاديًا بالدولة) يد الأولى لاستغلال أبناء الطبقة العاملة في القطاع الخاصّ.


ولذا فإنّ تاريخ الخلاف والصدام بين الاتّحاد والدولة منذ تلك الحقبة هو بالأساس تاريخ محاولات أحد طرفيْ المعادلة تغيير حدودها أو المسّ من المصالح الاقتصادية والسياسية للطرف الآخر (في الأغلبية الساحقة للحالات كانت البرجوازية، من خلال الدولة، من قامت بذلك). سواءٌ كان وراء هذه المحاولة دوافع داخليّة (مثل اضرابات نقابات سكك الحديد في 69) أم ذات أبعاد خارجيّة (مثلا “سياسات الاصلاح الهيكلي” لصندوق النقد الدولي في نهاية السبعينات والثمانينات). وما يجري الآن ليس اسثتناءً بتقديري.


اليوم لدينا صراع مركّب: ففي داخل النظام، يحاول شقّ من البرجوازية الكمبرادورية، الأكثر ارتباطًا بمراكز النهب الامبريالي وكفاءةً في خدمة مصالحها (ويمثّله في السلطة يوسف الشاهد وحركة النهضة، وأحزاب ياسين ابراهيم ومحسن مرزوق والمهدي جمعة في “المعارضة”) تجاوز ممثّلي البرجوازية الكمبرادورية التقليدية، التي طالما استندت على امتداداتها في الدولة لاحتكار أهمّ الأسواق الداخلية (خاصّة في مجال المقاولات والأشغال العامّة وتجارة التوريد، فضلاً عن جلّ القطاعات التي خصخصتها الدولة والخ)، ويمثّلها السبسي وحزبه/ العصابة نداء تونس، الوريث الأهمّ لـ”التجمّع/حزب الدستور”. هذا الصراع لم يتوقّف عند حدود البرجوازية فحسب، بل تجاوزها ليمسّ بمصالح الفئات الوسطى المرتبطة اقتصاديا بالدولة عبر القطاع العامّ (وممثّلها الأكبر اتحاد الشغل).


ودون إطالة لا يتّسع لها المجال، نعم قيادة الاتّحاد جادّة في هذا الصراع، لكنّها تخوضه لتحقيق أهدافها هي، لا أهداف الثوريين. وأهداف البيروقراطية واضحة ومعروفة منذ عقود: تحقيق ظروف عيش معقولة لقاعدتها الطبقية ومنع التفريط في أهمّ المؤسسات العمومية التي يستفيد منها العديد من كوادرها. وما رفع شعار “السيادة الوطنية” اليوم سوى احتجاجًا على تذرّع حكومة الشاهد بتعليمات وموانع صندوق النقد الدولي لحرمان البيروقراطيّة من حصّتها التاريخية.


ودون إطالة لا يتّسع لها المجال، نعم قيادة الاتّحاد جادّة في هذا الصراع، لكنّها تخوضه لتحقيق أهدافها هي، لا أهداف الثوريين. وأهداف البيروقراطية واضحة ومعروفة منذ عقود: تحقيق ظروف عيش معقولة لقاعدتها الطبقية ومنع التفريط في أهمّ المؤسسات العمومية التي يستفيد منها العديد من كوادرها. وما رفع شعار “السيادة الوطنية” اليوم سوى احتجاجًا على تذرّع حكومة الشاهد بتعليمات وموانع صندوق النقد الدولي لحرمان البيروقراطيّة من حصّتها التاريخية.


أمّا باقي جوانب ومرتكزات “السيادة الوطنية” من ارتهان للخارج عبر القروض أو قانون عدد 72 الاستعماري والاستغلالي الفاحش (المنظّم للشركات المصدّرة كليًا) وغيرها من الاتفاقيات التجارية الدولية المجحفة (وعلى رأسها “الأليكا” قيد التفاوض)، فهي لا تمثّل بالنسبة للاتّحاد أسبابًا وجيهة للتصعيد. وذلك رغم مسّ البعض منها مباشرة بحقوق العمّال – خاصّة بالقطاع الخاصّ – الذين يفترض أنّه يدافع عنهم. وكما يقول المثل الشعبي: “لو كان فالح راهو من البارح”، أي على الأقلّ منذ وقّعت قيادة الاتحاد على اتفاقيّتيْ قرطاج 1 و2، وقبلت بأن يكون لها وزير في الحكومة.


وعليه، فإنّه لا يجب برأيي على الثوريين استسهال اعتبار الاتّحاد جزءًا من “جبهة المقاومة” للنظام العميل، ولا يجدر كذلك بعموم اليساريين التعويل على هذه القيادة البيروقراطية (التي تتواطؤ مع رأس المال الأجنبي في استغلاله وقمعه للعمّال) في المضيّ قُدُمًا في معركة “السيادة الوطنية”. بل إنّني أخشى أنّ تؤدّي مواصلة استعمال قيادة الاتّحاد لشعار “السيادة” حصريًا من أجل تحقيق “تعديل المقدرة الشرائية” وفرض التفاهم معه في ملفّ المؤسسات العمومية، إلى افراغ هذا الشعار من محتواه، بل و”تشليكه”.


هل يعني ذلك عدم دعم مطالب الاضراب؟ لا طبعًا، إذ لا يمكن لليسار عدم الدفاع عن تحسين القدرة الشرائية للأجراء (مع ضرورة التركيز على الفئات الأضعف أجرًا في الوظيفة العمومية والقطاع العامّ) أو الوقوف على الحياد عندما يُرفع شعار “السيادة الوطنية”. إلّا أنّ دعم المطالب المحقّة وتبنّي الشعار الصحيح، لا يعني دعم من يرفعه انتهازيّة ولا يجب أن يمنعنا ذلك من نقده وفضح انتهازيّته.


أمّا في الإجابة عن السؤال المستمرّ: “ما العمل؟” فبإيجاز، المطلوب بتقديري في المدى المتوسط والبعيد معروف، بل ويكاد يكون مجمعًا عليه مبدئيًا، لدى جميع أطراف اليسار (الثوري منه والإصلاحي). وهو أن ينكبّ اليسار الجذري جدّيا على بناء قوّته المادّية المستقلّة عن كلّ الأطراف اليمينية، وذلك عبر بناء مشروع ثوري استراتيجي قائم أساسا على الانغراس في الطبقات الشعبية، وهو موضوع ذو شجون يطول فيه النقاش.

أمّا في المدى المنظور، فهو يتمثّل في العمل على بناء جبهة معارضة يمكن أن تشمل أطرافًا من اليسار الجذري إلى وسط اليسار (من يسار الجبهة الشعبية إلى التيّار الديمقراطي ان صدقت قيادته في توجّهها الاجتماعي الديمقراطي)، تناضل ميدانيًا وتعبّئ ما أمكن شعبيًا (دون أوهام ثورية لا نمتلك شروطها) من أجل تحقيق جملة من مطالب الحدّ الأدنى في محوريْ السيادة الوطنية والعدالة الوطنيّة. وهذه معركة لا يجب أن تتوقّف الاّ بتحقيق أهمّ وأعجل مطالبها، ولا يجب السماح باجهاضها انتخابيًا.


أمّا في المدى المنظور، فهو يتمثّل في العمل على بناء جبهة معارضة يمكن أن تشمل أطرافًا من اليسار الجذري إلى وسط اليسار (من يسار الجبهة الشعبية إلى التيّار الديمقراطي ان صدقت قيادته في توجّهها الاجتماعي الديمقراطي)، تناضل ميدانيًا وتعبّئ ما أمكن شعبيًا (دون أوهام ثورية لا نمتلك شروطها) من أجل تحقيق جملة من مطالب الحدّ الأدنى في محوريْ السيادة الوطنية والعدالة الوطنيّة. وهذه معركة لا يجب أن تتوقّف الاّ بتحقيق أهمّ وأعجل مطالبها، ولا يجب السماح باجهاضها انتخابيًا.


وأرى أن تعبّر أرضية هذه “الجبهة الوطنية الديمقراطيّة” عن جملة من المطالب العاجلة التي بإمكانها توفير موارد اضافية للدولة، بما يسمح بتنفيس أجراء الطبقة الوسطى وتخفيف معاناة العمّال وعموم المفقّرين والمهمّشين. ومن أهمّ هذه المطالب : تجميد أسعار المواد الأساسية، الترفيع في الأجر الأدنى الصناعي والفلاحي، وقف التفاوض على اتفاقية “الأليكا” ورفضها أصلاً، ترفيع الضرائب على أصحاب الثروات والشركات، الغاء أو تعديل قانون 72، وقف التداين الخارجي، وقف التوريد العشوائي، عدم التفريط في المؤسسات العمومية مع اصلاحها، التدقيق في عقود الطاقة وتعديلها، قانون تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني، عدم الانخراط في سياسة المحاور الاقليمية والخ.

أمّا عن الموقف اليساري المطلوب من التحرّكات القادمة للاتّحاد فهو مرتبط تقديري بمدى تأثير اليسار داخل المنظّمة ليدفعها إلى تجسيد شعار “السيادة الوطنية” وتوسعة وتجذير المطالب المترتّبة عنه (وهذا أمر غير وارد حسب المعطيات المتوفّرة). وفي نفس السياق، يجب أن يكون التعامل مع قيادة الاتّحاد في المطلق مرهونًا بمدى استعدادها للنضال لتحقيق المطالب المذكورة للجبهة المقترحة أعلاه.

عدا ذلك، سيستمرّ اليسار في اجترار عجزه وفي مغالطة نفسه وجمهوره بالرهان على الأحصنة الخاسرة.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *