عائلة الشابّة ميساء بن حميدة: “نتّهم الدولة ومعهد الأعصاب بالتفريط في حياة ابنتنا!”

خاصّ – متابعة – غسّان بن خليفة

اتّهمت لينا بن حميدة، شقيقة الشابّة الراحلة ميساء بن حميدة، “الدولة التي تشجّع خوصصة قطاع الصحّة والمعهد الوطني المنجي بن حميدة لأمراض الأعصاب” بالمسؤولية عن وفاة شقيقتها نتيجة لعدم اجراء عمليّة جراحية لمعالجة مرض “تمدّد الأوعية الدمويّة الدماغيّة الشريانيّة” (Anévrisme cérébral et artériel).

وأوضحت لينا في اتّصال هاتفي مع موقع انحياز أنّ المتاعب الصحّية لشقيقتها ظهرت بشكل جليّ بداية شهر أكتوبر الماضي. وعلى اثر ذلك تمّ ايوائها ليلتيْن بالمعهد الوطني للأعصاب، حيث تمّ تشخيص المرض عبر اختبار “تصوير الأوعية” (Angiographie) على يد البروفيسورة د. نادية الحمّامي. وأخبرت الطبيبة ميساء وعائلتها بأنّ المرض يعود إلى تشوّه خلقي منذ الولادة وأنّه يمكن معالجته عبر اجراء تدخّل جراحي embolisation لمعالجته. إلّا أنّ الطبيبة أخبرتهم كذلك بأنّه يتعذّر حاليا اجراء العمليّة لأنّ “التجهيزات غير متوفّرة وأنّه سيتمّ تحديد الموعد عند توفّرها”، كما أوضح لنا السيّد رياض بن حميدة والد الفقيدة. وأضاف الوالد أنّ الطبيبة قالت له حرفيًا: “لماذا أنتم قلقون؟ هناك شباب ينتظرون إجراء العملية منذ أكثر من سنة ونصف بينما ميساء تعيش بهذا المرض منذ ولادتها!”. كما أشارت الطبيبة إلى أنّ البديل عن الانتظار هو اجراء العملية في إحدى المصحّات الخاصّة؛ وذكَرَت للوالد اسم مصحّة سُكّرة.

طُلب من المرحومة العودة إلى بيتها بمدينة المنستير، وأُخبر والدها بأنّه سيتمّ الاتصال به بعد أسبوع لمتابعة حالتها. إلّا أنّ ذلك لم يحصل بعد مرور حوالي شهر. فعاد الوالد إلى المستشفى متسائلاً، ليتمّ اخباره بأنّ حالتها مازالت مستقرّة ويمكن للمريضة أن تنتظر. بقي الوالد يتردّد بمعدّل مرتين أسبوعيًا على المعهد ليسأل عن توفّر التجهيزات، لكن دون جدوى. بالمقابل يذكر الوالد أنّه استشار عددا من الأطبّاء المختصين في أمراض الأعصاب، فأكّدوا له أنّ حالة ميساء خطيرة وتتطلبّ التدخّل الجراحي العاجل. إلّا أنّ القرار الطبّي الأخير كان بيد المختصّين في “الجراحة الراديولوجيّة” Radiologie interventionnelle، ومن أبرزهم في تونس البروفيسورة د. نادية الحمّامي.

هذا وقالت لينا كذلك، أنّ والدها توجّه ذات مرّة للقاء الدكتورة الحمّامي من أجل الحصول على وثائق تساعده على تقديم طلب استرجاع مصاريف لوزارة الشؤون الاجتماعية، فطلبت منه الانتظار أمام مكتبها. وخلال ترقّبه الطويل، أكّد لنا السيّد بن حميدة أنّه سمع الطبيبة تتحدّث مع زميلة لها عن ضرورة استجلاب التجهيزات من مصحّة سُكّرة.

وعندما يئست العائلة من تحديد موعد قريب للعملية في المعهد، استعلَمت عن سعر العمليّة في المصحّات، فاتضّح أنّها تترواح بين 60 ألف دينار و100 ألف دينار (في حال تعكّر حالة المريض). وهو ما دفع العائلة إلى عرض بيتها وسيّارتها للبيع.

في الأثناء، كانت حالة ميساء تتعكّر. إذ صارت تعاني من اضطرابات في التنفّس وتقيّئات. فعاد والدها مجدّدا إلى المعهد، حيث أخبرته الطبيبة بأنّ ذلك يعود إلى حالتها النفسيّة ونصحته بعرضها على أخصّائي نفساني. وهو ما حصل فعلاً، إذ شخّص الأخير لديها حالة “الصرع الصدغي” épilepsie temporale، ذات علاقة بمرضها.

ومع تدهور حالة ميساء، اتّصلت العائلة بمصحّة سكّرة وأخبرتها بأنّها جمعت المال المطلوب، فكان الردّ بأنّه يجب انتظار 6 شهور للإعداد للعمليّة الجراحية. أمّا في مصحّة “قرطاجنّة” فقد أخبرهم الدكتور أنيس القرقني بأنّه لا يمكن للحالة أن تنتظر كثيرًا ورأى أنّه يمكن اجرائها في شهر مارس القادم.

تزايدت نوبات الصرع، فتمّ الكشف مجدّدا على حالة ميساء ليُكتَشف أنّ هنالك وعاءٌ دمويّ ثاني ضاغط على الوعاء الأوّل، مصدر الإشكال الأصلي، وهو ما يزيد من الطابع الاستعجالي للتدخّل الجراحي المطلوب. إلّا أنّ الأطبّاء في المعهد والمصحّات كانوا  يتعلّلون دومًا بعدم جهوزيتهم.

قبل حوالي أسبوعين، خرجت ميساء من بيتها لإيصال بعض الأصدقاء، فضلّت الطريق وحصلت لها أزمة صرع قويّة. بعد ان ارتاحت بعض الشيء، قرّرت مرافقة العائلة إلى حفل زفاف. “لبست فستانها الأحمر الذي تحبّه كثيرًا”، تروي لينا، وذهبت معهم. عند الخروج من الحفل، سقطت مغميًا عليها وهي تُحشرج. تمّ نقلها على وجه السرعة إلى قسم الاستعجالي بالمستشىفى الجامعي سهلول بمدينة سوسة. هناك تمّ تشخيص حدوث نزيف دماغي، وبقيت في حالة اغماء و”وفاة دماغيّة” طيلة أسبوع، قبل أن ترحل من عالمنا يوم الأحد المنقضي.

نقاط استفاهم مريبة

أثار وفاة الشابّة ميساء، ابنة الـ 21 ربيعًا، موجة استياء واسعة على شبكات التواصل الاجتماعي. وإلى جانب استنكار التونسيين والتونسيات فكرة أن يموت شخص ما بسبب عدم توفّره على مال للعلاج، استغرب الكثيرون عدم اجراء العملية في المعهد الوطني للأعصاب رغم توفّر التجهيزات الضرورية. واستهجنوا خاصّة أن يُطلب من مريض في حالة مستعجلة الانتظار 3  سنوات (كما راج في البداية على شبكة التواصل الاجتماعية).

من جهته، أكّد لنا الطبيب جاد الهنشيري، رئيس الجمعية التونسية للأطبّاء الشُبّان، في تصريح هاتفي أنّه لا يمكن قبول أن يُطلب من المرضى ذوي الحالات العاجلة الانتظار مُهلاً طوية، مشيرًا إلى توفّر التجهيزات الضرورية بالمعهد. وأكّد علمه بإجراء عملية مشابهة مؤخّرًا بالمعهد.

إلى ذلك لم يستبعد الهنشيري أن يكون في الأمر شبهة “تحويل وجهة مريض”. وهي ممارسة لا أخلاقية يمارسها بعض الأطبّاء بالقطاع العامّ، الذين يوجّهون بعض المرضى إلى القطاع الخاصّ، حيث يمارسون “النشاط التكميلي الخاصّ”، بهدف الربح الماديّ لصالحهم أو لصالح بعض معارفهم. وأشار الهنشيري إلى أنّ الأغلبية الساحقة من كبار الأساتذة الأطبّاء بالصحّة العمومية في تونس يتمتّعون بمنظومة “النشاط التكميلي الخاصّ”، التي وضعتها الدولة للحيلولة دون هَجرهم القطاع العمومي إلى الخاصّ.

وأضاف الهنشيري أنّه يحدث أن يأخذ بعض الأطبّاء بالقطاع العامّ “عُلبة العمليّات” (أي الأدوات المُعقّمة الخاصّة بعملية جراحية بعينها) معه إلى المصحّة الخاصّة لاستعمالها هناك. وهو ما قد يفسّر أحيانًا عدم توفّر بعض التجهيزات الضرورية بالمستشفيات العمومية.

ولمزيد فهم حيثيّات الموضوع تحدّثنا إلى فتاة (طلبت عدم ذكر اسمها) أجرت مؤخّرا عملية مشابهة بالمعهد. وأخبرتنا أنّها نجحت في اجرائها دون موعد، بفضل مساعدة وتدخّلات بعض العاملين هناك، لأنّ البديل كان الانتظار طيلة سبع شهور. وأوضحت محدّثتنا أنّ طول آجال اجراء العملية في معهد الأعصاب يعود أساسا إلى عدم توفّر الـ trousseau (كيس الأدوات) الخاصّ بكلّ عملية وبكلّ مريض، والذي يتمّ استيراده من الخارج فيما يتوفّر بشكل دائم بالمصحّات الخاصّة، علمًا وأنّ هذا التوريد يتمّ عبر موافقة وزارة الصحّة. وهو ما رأت فيه تبجيلاً للقطاع الخاصّ على القطاع العمومي وللميسورين على ضعاف ومتوسّطي الحال. كما ذكرت الشاهدة أنّها لاحظت وقتها أنّ امرأة مسنّة تناهز الثمانين من العمر قد أجرت نفس العملية تقريبًا فيما ينتظر العديد من الشبّان، وتساءلت عن كيفيّة تحديد الأولويات لدى أطبّاء المعهد…

هذا وقد حاولنا الاتصال هاتفيا عشيّة الثلاثاء بالمعهد وبوزارة الصحّة، للحصول على تعليق منهم على ما جرى، إلّا أنّه لم يتمّ الردّ على اتصالاتنا المتكرّرة.

 

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *