رأيْ | اتفاقيّة “الأليكا”: عن تقْنين الإستعمار باسم “الاستثمار” !

اقتصاد سياسي – رأي – خاصّ – انحياز

مَها بن ڨدحة (*)

انطلقت الدورة الثالثة للمفاوضات حول اتفاق التبادل الحرّ المعمّق والشامل الذي يهدف إلى تحرير المبادلات التجارية في جلّ القطاعات الاقتصادية بين تونس والاتحاد الأوروبي.

عُقدت هذه الدورة في بروكسال بمقرّ المفوضية الأوروبية وتواصلت على مدى خمسة أيّام (من 10 الى 14 ديسمبر 2018). جولة يلتقي فيها الوفدان عادة للتوصّل إلى حلول حول مسائل يفترض أن تكون عالقة، ليُعلَن لاحقا عمّا تمّ الاتّفاق عليه في نهاية هذه الدورة، والتصريح بما تمّ ارجاؤه لأجندة الدورة القادمة.

غير أنّ المُطلّع على تقارير جولات التفاوض السابقة، لن يجد فيها ما هو عالق، واذنْ لن يعرف ما تطالب به الجهة الرسمية التونسية تحديدًا أو ما ترفضه. فعادةً ما يُعلَن عن الموقف الرسمي التونسي في المؤتمرات، ومؤخّرًا في بعض نقاشات البرلمان، و هو موجّه بالخصوص الي الرأي العام الداخلي.

فبعد تعالي الانتقادات من  المعارضة والمجتمع المدني، صرّح عددٌ من المسؤولين التونسيين، في محاولة لامتصاص الغضب وللمناورة، أنّ هذه الاتفاقية لن تُوقَّع في 2019. ومنهم من يعتبر أنّه من غير المحتمَل تطبيقها قبل القيام بتأهيل القطاعات المعنية. و منهم من يعتقد أنّها لن تُفعَّل- أيْ تدخل حيز التنفيذ – الّا بعد خمسة عشر أو عشرون سنة -اذا ما وُقّعَت الآن- وهو ما يُسمّى بمبدأ عدم التكافؤ (Principe d’asymétrie) والذي يخوّل للبلد الأضعف اقتصاديا أن يَطلُب تطبيقا متدرّجًا في الزمن وفي القطاعات. وفي المواد الخاضعة لـ”التحرير الديواني”، حتى يُخفّف من التبِعات الكارثية التي يمكن ان تنجرّ عن التحرير الفوري. وذلك في الحقيقة مقترح أوروبي لإدراكهم خطورة التحرير الشامل غير المتدرّج على الاقتصادات الضعيفة وما قد يسبّبه من انعكاسات على الميزان التجاري.

الهجرة: الحلم التونسي الذي من أجله يُباع الوطن

لعلّ الطلب الرسمي التونسي الوحيد الذي يُسوَّق له في وسائل إعلامنا، هو ما أعلن عنه من بروكسل رئيس الوفد المفاوض، وزير النقل هشام بن أحمد، وهو المطالبة بإلغاء تأشيرة السفر لأرباب الأعمال التونسيين والتلميح بقبوله من الجانب الأوروبي، مُغذّين بذلك أحلام الشباب التونسي للهجرة الى أوروبا. فإمكانية تسهيل إجراءات السفر موجودة أيضا في المقترح الأوروبي، لكنها خُصّصت في فصول الإتفاقية فقط لبعض العاملين في قطاعات مُحدَّدة جدًا وحسب تعاريف يقرّرها الجانب الأوروبي، من قَبِيل أن يكون الشخص رئيس مؤسسة أو مديرا مُكلَّفًا بالانتداب والطرد أو خبيرا أو عاملا في الشركة الأمّ ويتنقل للشركة الفرع للقيام بتكوين، وَوِفْق شروط معقَّدة مثل أن تكون الشهادة معترفا بها وأن يكون صاحبها موظّفًا منذ أكثر من سنة في الشركة الأمّ وأن تكون لديه خبرة تفوق ثلاث سنوات على الأقل في مجال خبرته.

كلّ ذلك دون تداخل في صلاحيات الدول الأعضاء (خلافا لما يراد التمويه به، فإلغاء التأشيرات ليس من صلاحيات المفوضيّة، ومثل هذا الاجراء بقيَ خاضعا لسياسات الدول الأعضاء). وفي أحسن الأحوال فإنّ المدّة القصوى المقترحة للتواجد في الفضاء الأوروبي لإسداء الخدمة لا يمكن أن يتجاوز مجموعها ثلاث سنوات للمدراء ورؤساء المؤسّسات والخبراء، وسنة واحدة للعمَلة المتنقّلين في الفروع، وتسعون يوما في السنة للمتنقّلين للأعمال.
مع العلم أن عدد الوالجين لتقديم الخدمات المعنية على تراب بلد أوروبي يُحدَّدُ أيضا كمّيًا -مثل السلع- ويخضع إلزاما لتقدير سلطات البلد العضو من ناحية الجدوى الإقتصادية (الفصل 17 الى 21 من باب الإستثمار). في حين أنّ المواطنين الأوروبيين، مهما تكن وضعيتهم المهنية: أعراف، عُمّال، عاطلين عن العمل، أو متقاعدين، يتنقّلون بكلّ حرية إلى تونس؛ بدون تأشيرة وإن لزم الأمر ببطاقة هوية فقط.

واذا ما كانوا مستثمرين، فإنّهم يتمتّعون بموجب قانون الإستثمار الجديد (المفروض ضمن الاتفاقات مع صندوق النقد الدولي) بحقوق لا تقلُّ عن حقوق المستثمر التونسي من التمتّع بالمنح الدولية والدعم والإعفاءات الجبائية في كل القطاعات ومجالات الاستثمار وبدون أيّ مقابل، كإلزامهم بتشغيل حدّ أدنى من اليد العاملة التونسية أو بنقل حدّ أدنى من التكنولوجيا.

لا يمكن اذن أن نتحدّث في ظلّ هذه الشروط عن اجراءات تُسهّل تنقّل التونسيين، بقدر ماهي شروط إضافية تُقنّن ولوج قلّة قليلة من أصحاب الأعمال التونسيّين إلى التراب الأوروبي -الذين لا يجدون أصلاً صعوبة في الحصول على التأشيرة. بل تسهّل هجرة الأدمغة في مجالات العمل الذي يحتاجها الجانب الأوروبي، في حين يضغط الاتحاد عبر قنوات اخرى خارج “الأليكا” للتمكّن من إمضاء إتفاق حول الهجرة يُجبر تونس على قبول المهاجرين المطرودين من الفضاء الأوروبي، مهما كانت جنسياتهم.

إتفاقية معقدة تكمن شياطينها بين سطورها 

انّ إتفاقية “الأليكا” محلّ التفاوض هي مسودّة مشروع بصدد الإكمال، اقترحها الاتحاد الأوروبي وكتب كلّ فصولها. وهي تتميّز بقدر كبير من التعقيد القانوني وبتعدّد فصولها وتشعّب مجالاتها. فهي تضمُّ 15 بابًا، يشمل كلٌّ منها، حسب القطاع أو المسائل المطروحة، العديد من الفصول. ويُنتظَر أن تُدجَّج بالملحقات، التي ستحوي القائمات والروزنامات والعديد من المسائل التقنية المُتَّفَق عليها بين الطرفيْن.

إذ لا يمكن للقارئ أن يفهمها إلا إذا كان مختصًّا في القانون الدولي والقانون الأوروبي والقانون المقارن والقانون التجاري وقانون المنافسة وقانون النقل البحري الدولي والملكية الفكرية؛ وفي نفس الوقت خبيرًا في جميع القطاعات كالفلاحة والصناعة والخدمات، التقليدية منها والحديثة كالخدمات الإلكترونية والمصرفيّة. وهو ما يكاد يجعل فهمها مستحيلا، أمّا التنبّؤ بتبعَات “التحرير” المتشابك لكلّ هذه المجالات فهو من قبيل التنجيم.

لذلك، فإنّ تجنبّ الحوار المجتمعي حول هذه الخيارات واستبعاد المنظمّات الوطنية والعُمّالية والمهنية والمدنية من مسار التفاوض يُعتبَر خطأً فادحًا. فبعدم استشارة المعنيّين في القطاعات التي يشملها الاتفاق، وبفتح حوار جدّي حوله وبمناقشة كل تفاصيله وأدقّ تشعباته، يضع المفاوض التونسي نفسه في ركن الضعيف المتسوّل، ويُضيع فرص تقوية موقعه في التفاوض أمام الطرف الأروبي.

سبق وأنْ تطرّقَنا في مقال سابق  إلى مسار التفاوض وما يشوبه من شوائب. لنحاول في ما يلي، بقدر الامكان ودون زعم الإلمام بجميع تفاصيل الإتفاقية، تسليط الضوء على المسائل التي تُعتَبَر الأكثر خطورة في وضعنا الرّاهن إذا ما وقّعتها الحكومة وصادق عليها البرلمان. خاصّة وأنها تمسُّ مسائل سيادية خطيرة، ستُطلق “رصاصة الرحمة” على ما تبقّى من الاقتصاد التونسي المحتضِر.

حرب المفاوضات التجارية العالمية: تغيير حلبة الصراع

إنّ ما يميّز هذا الجيل الجديد من الاتفاقيات الثنائية، مقارنة بالاتّفاقيات متعدّدة الأطراف (التي تتطلب موافقة جميع الدول المنخرطة في منظمة التجارة العالمية) هو استعمالها كأداة لحلحلة قضايا عالقة كانت الدول قد فشلت في الوصول الى اتفّاق حولها في دورة مفاوضات الدوحة منذ 2001، لِما تمثله من خطر على اقتصاداتها وقطاعاتها الحيوية والاستراتيجية، كتحرير الفلاحة والصفقات العمومية والاستثمار وآليات التحكيم والملكية الفكرية.

انّ ما يُعبَّر عنه بـ”فشل مفاوضات الدوحة” هو تعبيرة عن نجاح تكتّل مجموعة من الدول في طور النموّ، كالصين والهند وايران والبرازيل وبعض البلدان الافريقية، في محاولة منهم  لقلب موازين القوى في منظّمة التجارة العالمية التي تسيطر عليها الولايات المتحدة وأوروبا، وبصفة عامة البلدان الرأسماليّة الغربيّة.

وإثر صعود هذه التكتلات الجنوبية، التجأت البلدان الشماليّة إلى تغيير استراتيجية التفاوض خدمة لمصالحها الرأس مالية وشركاتها العابرة للقارات، عبر إعلان فشل مفاوضات الدوحة، والمضيّ في اقتراح إتفاقيات ثنائية تحاول فرضها آُحاديًا على بقيّة البلدان، مستغلّة في ذلك علاقة التبعية المالية والسياسية والعسكرية للدول الفقيرة، للوصول إلى أهدافها التجارية وإحكام القبضة على مجالاتها الحيوية وأسواقها التقليدية المُهَدَّدَة.

اتفاقيات تجارية ثُنائية انتفضت ضدّها العديد من المنظمّات الأوروبية والحركات الاحتجاجية في العالم نظرًا لتبعاتها الخطيرة. فهي تمنع الدول من دعم وتطوير اقتصاداتها الوطنية، وتصادر سيادتها التشريعية، وتهدّد سيادة الشعوب على مواردها الطبيعية والغذائية والبيئية والثقافية، و تقمع حقوق المواطنين الأساسية، كالحقّ في الصحّة (مثلًا حق تصنيع الأدوية محلّيًا) والتعليم والعمل والتنقّل والبيئة السليمة، في حين أنّها تحمي الشركات ورؤوس الأموال وتمنع أيّ محاولات لتعديل الأسواق، وتجعل الدول والشعوب وثرواتها تحت وطأة المضاربة المالية والاحتكار والاستغلال والاستخراجية المُجحفة.

والأخطر من ذلك أنّها تمنح الشركات، عبر آليّة التحكيم الخاصّ، امكانية مقاضاة الدول وتغريمها بمبالغ خيالية، كلّما حاولت اتخاذ اجراءات سياديّة لحماية مؤسساتها و حقوق شعوبها.

 

“الأليكا”: حرب الشركات المتعدّدة الجنسيات على ثروات الشعوب وسيادة الدول

تسعى اتفاقيّة “الأليكا”، على عكس الاتفاقيات التجارية السابقة، إلى رفع -بمعنى إلغاء- كلّ الحواجز الجمركية (التعريفة الديوانية) التي تُعتَبر عراقيلا للتجارة بالمنطق الليبيرالي. وكذلك رفع الحواجز غير الجمركية (مثل التراخيص وكراسات الشروط والاجراءات الادارية والمواصفات وكلّ القوانين الداخلية التي يمكن أن تُعتَبر اجراءات حمائية وتحدّ من تدفّق السلع والخدمات الأجنبية إلى السوق الداخلية) في كلّ القطاعات، بما في ذلك الفلاحة والخدمات والطاقة وكافّة مجالات الاستثمار والصفقات العمومية.

تتميّز خاصّة بفرض ملاءمة التشاريع الداخلية التونسية مع التشاريع والمواصفات الأوروبية. إذ يحاول الاتحاد الأوروبي، إذا ما نجح في ذلك، الإبقاء على حواجزه غير الجمركية التي تمكّنه من حماية منتوجاته في السوق الأوروبية وبهذه الطريقة – عبر إخضاع السوق التونسية الداخلية للمواصفات الأوروبية – فإنّه يضمن أيضا منع المنتوجات القادمة من الدول الأخرى الى تونس (تركيا أو كوريا أو الصين). والأخطر من ذلك، أنّه بهذا الإجراء فهو يمنع أيضا المنتجات التونسية من منافسة المنتج الأوروبي في السوق التونسية نفسها.

 

فمثلًا بموجب فصل السلامة الصحية والنباتية الذي يسعى الى ملاءمة التشريع محلّيًا (أيْ اعتماد تونس المواصفات الأوروبية في المواد الغذائية والنباتية) لن يستطيع تُفّاح سبيبة أن ينافس تُفّاح “الڨولدن” او “الڨالا” الفرنسي في الأسواق التونسية، ولن يستطيع قطاع الألبان والأجبان التونسي أن يصمد محليا أمام قطاع الألبان الألماني المدعوم بالمليارات من اليورو. فكيف لعمّ صالح، الفلاح الستّيني العمر، الذي زادت كلفة أعلافه بتدهور الدينار بأكثر من 40% والمُكَبَّل بالديون، حتى أنّه لم يعد قادرا على توفير الماء لأراخيه، أن ينافس العملاق “لاكتاليس” المتحصّل وحده على أكبر حصة من الدعم الأوروبي (22.5 مليون أورو في 2016) في قطاع الألبان؟

كيف لنا أن ننافس على أرضنا شركات عملاقة كهذه، تتمتع بدعم مهول، في ظلّ اتفاقية تفرض مبادئ المنافسة الحرّة المتطابقة مع التشريع الأوروبي وحماية المستثمر الأوروبي من كلّ اجراءات حمائية من قِبَل الدولة التونسية، حتى ولو كانت مستقبليّة؟

عن أيّ تأهيلٍ أوروبي نتحدّث إذا كان لتعميق النزعة الاستخراجية للفلاحة التصديريّة المُفقِّرة للأرض وللمائدة المائية بأبخس الأثمان، في بلد يعطش مواطنوه ويناضلون من أجل حقهم الطبيعي في الشرب؟

كم من أبٍ مريض وطفل وأمّ وأخ وأخت يموتون رغم أنّ دوائهم معروف وسهل تصنيعه، لكن يُحتَكَر من قِبَل الشركات والمخابر الصيدليّة لمدّة عشرين سنة، ولا حول للدول الاّ شراءه بالعملة الصعبة وبأسعار خيالية؟ ألم تكفهم عشرون عامًا من الأرباح على ظهر الأموات ليطالبوا بثلاثين؟

كم معصرة زيت هي على أبواب الإفلاس في تونس هذه السنة لعدم تمكّنهم من تصدير زيتهم لإيطاليا؟ (بموجب تعطيل الحصص وضبط الكمّيات وتعديل المواصفات التي يطبّقها الجانب الأوروبي مثلما يشاء)

عن أيّ حصص إضافية يتحدثون؟ أليس من الأجدر إلغاء نظام الحصص اذا ما كانوا حقًا ليبيراليّين كما يزعمون؟

كم من القروض ستُحسب على دافعي الضرائب التونسييون لتغطية عجز الميزان التجاري المتفاقم منذ عقود، والذي سيزيد تفاقمه أضعافا مضاعَفَة بموجب هذه الاتفاقية؟ وكم من شروط إضافية ستفرضها علينا المؤسّسات المانحة والإتحاد الأوروبي نفسه لتسريح لأقساط القروض؟

ألم يحن الوقت لقول كفى؟ … كفى لهذا الاستعمار! 


(*) متخرجة علوم اقتصادية، اقتصاد صناعي واستراتيجيات دولية من جامعة باريس 13 ومالية دولية من جامعة كلارمون 1. التحقت اثر الثورة بالديوان الرئاسي كمستشارة. تشغل حاليا خطّة مديرة برامج اقتصادية بمنظمة روزا لوكسمبورغ. مهتمّة بالتحليل النقدي لعلاقة الهيمنة الأوروبية النيوليبرالية على دول شمال افريقيا.

 

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *