رأيْ | عن “حملات الشتاء” وألوانها ومضامينها

رأي – وطنية – خاصّ

محسن عامر

ناشط سياسي يساري

كانت الثورة البلشفية إنجازًا للشعب الروسي سوف يتحول يوما ما في المستقبل إلى “شمس تضيئ للإنسانية كلها”. كان هذا تعليق صحيفة تركية عن الثورة البلشفية، الحدث الأبرز الذي هزّ  أركان العالم سنة 1917. أصداء هذا الزلزال الثوري  سرعان ما بلغت كافّة أركان العالم، من سوفياتات معامل التبغ في كوبا ٱلتي لم يكن الكثيرون منهم يعرفون حتى أين تقع روسيا جغرافيا، إلى إسبانيا التي سُمّيت الفترة الفاصلة بين 1917و 1919 فيها بـ”السنتيْن البلشفيّتيْن”، فالأرجنتين والمكسيك ٱلتي أعلنت تآخيها مع الثورة الروسية وحوّلت ماركس ولينين إلى معبوديها إلى جانب موكتيزوما و إميليانو زاباتا. بل إلى أعماق غابات أستراليا النائية أين كان جزّازو صوف الأغنام الأجلاف الإرلنديون يتغنّون بالسوفياتات بوصفها دولة للعمال، وصولا إلى اكتظاظ مناجم مينيسوتا البائسة في الولايات المتحدة الأمريكية بالفنلديّين المتحوّلين جماعيا نحو الشيوعية  و الأسرى و المحاربين العائدين من الحرب، أمثال الميكانيكي الكرواتي جوزيب بروز “تيتو”، الزعيم الشيوعي اليوغسلافي لاحقًا.

أحداث روسيا التي تحولت إلى شيء يشبه النشوة الدينية، لم تكن حدثا مُلهما للثوريين فقط، بل لمختلف الثورات في العالم. إمكانية عالم يتجاوز بؤس الرأسمالية التي طحنت الفقراء في معامل الفحم وحوّلتهم إلى قوة تُشغّل ماكينة مصانع الأسلحة زمن الحرب، أصبحت شيئا يمكن لمسه باليدين. ترابط فكرة السلام والثورة الإجتماعية تجاوز كل أشكال التضامن الأيديولوجي إلى مُلهم مضموني نضالي  لأميلكار كبرال في غينيا بيساو  ومنظمة ساريكات إسلام الجماهيرية الأندونيسية إلى ناصر وبومدين و صدام حسين والعسكريين الإشتراكيين اللاتينيين وغيرهم.

فعل الإنتفاض الشعبي، عدَا أنّه ليس مُعطًا “طبقيا” محضًا، بإعتبار أن الإنتفاضات تركيب لمعطيات موضوعية قد تكون للسياسي، وحتى للمعطيات غير الإقتصادية، اليد  الطولى فيها، ليست صيغا بلاغية ويسارية فئوية، لا هي قادرة على تلمّس طريق صحيح للفعل ولاهي مستعدة له بالنظر لوضعها الحالي.

فتونس تواجه حالة هُلاس برلماني وصراعات فوقية عزلت المنظمات الجماهيرية عن إمكانية صناعة الفعل داخل سياقاتها التقليدية (الإحتجاج). مع ظروف اقتصادية و اجتماعية كارثية، هي الظروف الموضوعية لصناعة حركات رفض جماهيرية. لنفصّل المسألة بأكثر وضوح: الإحتجاج الإجتماعي تحوّل إلى محفل موسمي مرتبط بشهر جانفي باعتبار طرح مشروع الميزانية. التنظيمات “الأفقية” فشلت أو كانت قليلة الفاعلية لا في مستوى تحريك الشارع فحسب، بل كذلك في قلب موازين القوى، بأعتبار أنها تركيب مكون مسبقًا من محازبين و أطراف سياسية ذات حسابات متباينة أبقت الحركة في دائرة الفعل الحزبي أو شبه الحزبي.

فرنسا الدولة المتقدمة التي تشهد احتجاجات اجتماعية تتجذّر يوما بعد يوم تحت إسم “السترات الصفراء” ، و ٱلتي تحوي عدى طبيعتها العفوية تلوينات متنوعة من اليمين و اليسار و الفوضويين. كان الجامع لهم الوقوف ضد التمشي الإقتصادي الفرنسي حول الضرائب و يمتد إلى الموقف تجاه كل النظام الحاكم في فرنسا.

ومن الطبيعي انّ هذه الحركة مثّلت حافزا للحركيّين في تونس، وخلقت شيئا من الإغراء الثوري، بدأت تظهر بعض الأصوات التي تفكر أو تتجه نحو استنساخ “شكل الإحتجاج”. حتى لا تكون التحركات القادمة المتزامنة مع شهر جانفي، التي قد ” تصفرّ”، شكلا من أشكال التقليد السطحي أو التضامن الأممي الرثّ يجب ملاحظة الآتي:

_ إسقاط شكل معين من الإحتجاج (الألوان، السترات..) لن يقدّم أكثر من لمحة هزلية على أيّ احتجاج في الوقت الذي يجب فيه التركيز على مسائل جوهرية أكثر أهمية.

_ إسقاط شكل التنظّم المُعدّ سلفا على الإحتجاج، مهما كان فعلا نضاليا، يحصر التحرك في الحزام المحتجّ (ٱلذي قد يكون حزبيا،شبكيا إلخ…) ويمنع الحركة من بلورة نفسها وإنتاج أشكالها الذاتية.

_ مطالب واضحة، برنامج واضح، أفق مخطّط له قبل أي مواجهة مع السلطة. غياب كل هذا يجعل الحركة الإحتجاجية فريسة للفوضى واحتواء السلطة لها (إحتجاجات جانفي 2015).

من الأجدر التفكير وسط هذا الضمور الذي تشهده الحركة الإجتماعية،  في كيفيّة دفع الحركة نفسها لتنتج بدائلها من الداخل. كيف؟ الإجابة هي :

النضال الجماهيري ليس حفلا فنيًا. فبغضّ النظر عن هزل اختيار الألوان، المبادرة الثورية من المناضلين مفيدة في خلق الفعل و لكنّ إدارة الفعل هي المحدّد لنجاح أي حركة. من أجل الإستفادة من أخطاء الماضي وأمراض الإستثمار الحزبي الفوري الإنتهازي أو عديم الصبر في أحسن الأحوال، الخيار هو دعوة جامعة لتحرك يفتح نقاشا داخل الشارع بين المحتجين والمواطنين: يجعل المواطنين العاديين شركاء في بناء حركة مناهضة لخيارات السلطة  وتطرح بدائلها الذاتية في الشارع بدل المنطق العصبوي المحازب المعزول. ويفتح حركية بأفق التأسيس لمبادرة جماهرية للفعل الشعبي ضد السلطة.

درس الثورات هو طريقة إدارتها في اتّساق مع ضرورات اللحظة التاريخية. أمّا كرنفالات “البوز الثوري” أو التأصيل النضالي على طريقة صور “السِلفي”، و الأهمّ تسجيل الحضور الحزبي الرمزي… كلّ هذا لا علاقة له بالموضوع.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *