عن “النزوح” بين الخطاب العنصري والواقع المسكوت عنه

يبدو مجتمعنا وكأنّه كلّما اجتاز مرحلة معينة إلّا وعاد أدراجه  إلى ما هو أدنى، سواءً على مستوى الخطاب أو على مستوى السياسات الاجتماعية والاقتصادية للدولة.ومن بين المسائل التي تفتح أبوابا لمعارك لا تنتهي، نقاشُ مسألة “النزوح” و”البلْديّة”، تلك المعركة الهلامية والمصطلحات الجوفاء  التي  يُزجّ بها في كلّ نقاش من قِبَل “المثقف” قَبل المواطن “العادي”،  كما يراد له أن يُعرَّف، رغم أنّنا جميعا عاديون ولا استثناء فينا، إلا في مجال الرداءة.

لم يختلف رجاء فرحات كثيرا عن سابقه الطاهر الفازع وغيرهما  من “مثقّفي العصر”. فالترويج لهذا الخطاب العنصري له حتما مرجعيّاته وخلفيّاته التي لا تحتاج سوى لأرضية ملائمة تتجلّى فيها أكثر.

“العاصمة المسكينة”، المدن الملوَّثة ، قطع الطريق والسرقة… هي أخبارٌ  طالما بحثوا عنها وربما التجأوا إلى صنعها من أجل خلق شعور منعدم  بالإنتماء.

يبدو أن وسائل الإعلام، أو فلنقل اصحابها، لها أسبابها أيضا للحفاظ على هذا الخطاب. وذلك رغم أن المرسوم 116 المتعلق بحرية الإتصال السمعي والبصري وبإحداث هيئة تعديليّة مستقلّة، يفرض وجوبا  في فصله الخامس احترام كرامة الإنسان واحترام  المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، ومن أهمّها طبعا منع التمييز على أيّ أساس كان.

ليس هذا موضوعنا ولنبحث عن معنى النزوح: هي كلمة ليست بيزنطية، تعني  مغادرة منطقة معيّنة للاستقرار في أخرى، فقط لا غير. إلّا أنّها تجاوزت مفهومها هذا  لتصبح شتيمة  ذات معنى عنصري، يميّز بين أبناء البلد الواحد.

و للنزوح طبعا أسبابه الاجتماعية والاقتصادية التي تجعل الإنسان يرحل من مكان لآخر، سواءٌ بحثا عن الشغل أو قوت يومه أو عن السلام. لذلك  نزحت الدولة من المدينة إلى الريف سعيًا منها إلى تحقيق السلم الإجتماعي المنشود، الذي قد يقي السلطة شر انتفاضة المفقُّرين في المناطق الداخلية.

لن نتحدّث عن شخصية النازح وعن أيّ أرض ثابت فيها أصله ولا عن أيّ سماء يصلها فرعه، بل عن سياسات دولة طالما سعت إلى طمس كل نفَس ثوري وقمع كل صوت حرُّ. سياسات تتمظهر أساسا في الحديث عن تحقيق حلم التشغيل في الجهات الداخلية والاستثمار الفلاحي والصناعي هناك،  ولعلّ شركات البيئة  الوهمية هي إحدى أهم الأمثلة على ذلك.

طبعا هذا “الاستثمار” لم يوقف نزيف النزوح من الريف إلى المدينة ، ولم يقدّم سوى مزيدا من شح المائدة المائية والمزيد من الكوارث البيئية. فبعد اختناق الحياة بمدينة صفاقس، رأينا كيف انتقل معمل الفيتورة ومعمل الآجر ومعظم المصانع إلى  جهة عقارب، وتحديدا بجانب المحمية الطبيعية القنّة.

وبعد أن تسبب التلوث الصناعي والمجمع الكيميائي “السياب ” في وأد القطاع الفلاحي بالجهة،  انتقل “الاستثمار” صوب الرقاب، منزل بوزيان والمكناسي.

ولم يتوانَ هذا الإستثمار عن تعرية وجهه الحقيقي. فالاستغلال المتواصل للعمّال وغياب التغطية الاجتماعية وظروف العمل المحترمة هي أهّم مقوماته ، فضلا عن حوادث المرور المتكررة، التي  تتعرض لها في الغالب العاملات بسبب ظروف النقل المزرية. ففي سنة 2016 بلغ عدد الضحايا 107 عاملة،  حسب إحصاء للمرصد الاجتماعي بالمنتدى التونسي للحقوق  الاجتماعية والاقتصادية، ومن بينهنّ خمس عاملات توفّين نتيجة لتلك الحوادث.

كذلك يظهر “الاستثمار” في الآبار غير المصرّح بها، خاصة العميقة منها وما تسبّبه من استنزاف للمائدة المائية على المستويين السطحي والعميق، ممّا يؤثر سلبا على انتاج صغار الفلاحين، الذين  لجأ معظمهم إلى بيع الأرض وحمل ما  بقي لهم من أمتعة وزاد ليرحلوا  نحو المدن الكبيرة ويستقرّوا هناك في أحد الأحياء الشعبية المخصّصة للنازحين من الأرياف، ولأولئك الذين لا يخوّل لهم دخلهم السنوي أن يكونوا من سكان الأحياء “الراقية”؛ فهم دائما على الضفة الأخرى من البلاد.

 

لم تخف الحكومات المتعاقبة على تونس يوما سياساتها ولا أجنداتهاـ التي طالما كانت واضحة المعالم. ففضلا عن الارتهان الدائم، إلى درجة البداهة، لصندوق النقد الدولي، فإنه في الحقيقة لا سلطة إلّا لمن يملك أكثر ولا سلطة إلّا لرأس المال. وما انتصاب بتروفاك بجزيرة قرقنة وتعنّت السلطة في قمع الأهالي لأجل تسهيل عمل الشركة نحو المزيد من الكوارث البحرية والبيئية، سوى مثال واضح وبسيط على طبيعة هذه السلطة.

نفس الاستنتاجات تنطبق أيضا على المجمع الكيميائي بقابس، منطقة الكامور البترولية بتطاوين، المجمع الكيميائي بقفصة، معتمدية جلمة، واحة جمنة، هنشير الشعّال والخ. كلّها مناطق جوبه أهلها بالقمع أثناء احتجاجاتهم ومطالبتهم بأبسط مقومات العيش الكريم: الماء والهواء والحياة. ولعلّ غلق “الفانة” خلال اعتصام الكامور في 12 أوت 2017  مثّل إحدى أكبر الرجّات  التي عاشتها الحكومة وقتها. ومع ذلك كان الحلّ الذي قدّمته الدولة شركة البيئة والغراسة مجدّدًا، ذلك “الحلّ الإلاهي” الذي لم يكن يوما  مطلبا شعبيا.

فلو كانت هذي الشركات، التي تشغّل الآلاف، آلية فاعلة وناجعة لصار لدينا لنا غابات وأدغال لا تُعدّ من كثرة التشجير المفترض.  لكنّها تكتفي بزراعة البطيخ والدلاع أمام المجمع الكيميائي بصفاقس بعد إقتلاع ما تبقي من أشجار.

وبعد اقتلاع أشجار زيتون من طرف أحد رجال الأعمال هناك لتشجعّه الدولة وتذلّل له السبل  لبناء عقارات ومباني صناعية.

لا يجب أن تُخصّص هذه الثروات المستنزفة، والواقعة تحت هيمنة  كبرى الشركات وأصحاب النفوذ برعاية الدولة وتسخير كل وزرائها، لتحقيق العدالة الاجتماعية المرجُوّة؛ ولا يجب أن يكون الاستثمار الفلاحي بيد الشباب أو في إطار الإقتصاد الإجتماعي التضامني، كي لا تنفلت الأمور من يد الدولة وتبسط الجهات المفقرة والمهمشة سيادتها على ارضها كما هو الحال بباقي الجهات. فوقتها لن يجد أعيان البلاد من يسمونّه نزوحا ويتندّرون به في مجالسهم ومحالفهم، حتى من خلال ما يسمونّه فنًا. ولن يجد الفازع ولا رجاء فرحات وأمثالهما ما يوفّر لهم خبزهم اليومي.

فلتكفّ الدولة عن النزوح إلى الأرياف وسيقيها الريفيّون شرّ نزوحهم.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *