لماذا سأقاطع الانتخابات البلديّة؟

 

قبل عقدٍ من الزمن، كانت الانتخابات تمثّل، بالنسبة للمناضل الشابّ الذي كُنته ضدّ ديكتاتورية بن علي، التجسيد الأسمى للحرّية السياسية. وقتها لم أقرأ بعدُ لماركس ولينين، بل كنت أقرأ عنهما.

بعد سبع سنوات قضيّتها في كندا، أحد أكبر البلدان “المتقدّمة” وأكثرها “ديمقراطيّة”، فهمتُ أنّه لا حرّية سياسيّة، ولا حرّية أصلاً، في ظلّ الرأسماليّة؛ وأنّ “الديمقراطيّة” وهمٌ. فمن لا يجد قوت يومه أو يقضّي نهاره في خدمة عرفه الرأسمالي لا يجد وقتًا لمتابعة السياسة، فضلاً عن ممارستها. وإن فعلَ، فلن يكون ذلك سوى بـ”عقليّة القطيع”. لم أستنتج ذلك فقط لأنّي بدأتُ أقرأ لماركس ولينين وماو وغرامشي وسمير أمين وغيرهم من المفكّرين الشيوعيين الثوريّين. بل لأنّني تابعتُ عن كثب، خاصّة من خلال دراستي الصحافة بالجامعة هناك، كيف أنّ النظام الديمقراطي التمثيلي (أي القائم على انتخاب المواطنين كلّ 4 أو 5 سنوات ممثّلين عنهم ليحكموهم) لا يسمح بالتغيير الحقيقي لواقع الناس. إذ تنحصر حدود التغيير الممكن عمومًا في الاختيار بين حزبين كبيرين، أحدهما “محافظ” والآخر “ليبرالي”. يختلف الحزبان، وقد يتصارعان بضراوة. لكن فقط فيما هو “ثقافي”. أمّا المجال الأكثر أهمّية وتشكيلاً لواقع الناس، أي الاقتصاد، فيسود بينهما التوافق أو يكاد.

لم أكتفِ بالمراقبة، بل وانخرطت نسبيًا في الحياة السياسية عبر الانضمام إلى أكثر الأحزاب المعترف بها يساريّة (واسمه كيباك المتضامن). كمقيم لا أملك الجنسيّة، لم يكن لديّ الحقّ في التصويت، لكن كان يحقّ لي المشاركة في أنشطة الحزب، وخاصّة في حملاته الانتخابية. رأيتُ بوضوح كيف أنّ هذا الحزب البعيد كلّ البعد عن “الدغمائيّة” أو “الثورجيّة” – كما يحلو لبعض الليبراليين السطحيين وصف كلّ سياسي يساري – كان يقدّم أفكاره الاصلاحيّة وبدائله الواقعيّة والقادرة فعلاً على تحسين حياة المجتمع، لا سيما الفئات الأضعف منه. لكنّه لم يكن قادرًا على الانتصار في الانتخابات والوصول الى الحكم. لم تكن المشكلة في الحزب وقدرته على التواصل أو في عدمية بدائله، بل في “المنظومة الديمقراطية” نفسها. إذ أنّها تنبني باختصار على تمويل غير محدود – رغم وجود ضوابط قانونية شكليّة يمكن التحايل عليها بسهولة – من رؤوس الأموال ومجموعات المصالح للأحزاب الكبيرة مقابل أن تسنّ هذه الأخيرة ما يلائم الأولى من تشريعات تتيح لها مزيد تكديس الأرباح. يضاف إلى هذه التمويلات الكبيرة التي نرى أثرها خلال الحملات الانتخابيّة، هناك الدور المحوري لوسائل الاعلام. فهذه أيضا تعود ملكيّة أغلبيتها الساحقة لرؤوس الأموال. وبغضّ النظر عن احترام أفضلها للحياد الشكلي خلال الفترات الانتخابيّة، فإنّ دورها الأساسي يتمثّل في تشكيل “الرأي العامّ” وصناعة القيم السائدة لدى أغلبية الناس. بعبارة أخرى تعمل وسائل الاعلام هذه بشكل يومي وبأساليب متنوّعة على ترسيخ الإيديولوجيا الليبرالية في الاقتصاد، وبتوجيه اهتمام النّاس إلى قضايا ثانوية (مثلا قضيّة “حجاب المُسلِمات” أو التضخيم من حقيقة ظاهرة “عصابات الشوارع” وربطها بالأحياء الشعبية حيث يعيش ذوي الأصول الهايتيّة واللاتينيّة والعربيّة).

في ظلّ هيمنة رأس المال على الأحزاب وعلى وسائل الاعلام، فضلاً عن جزء هامّ من المؤسّسات الجامعيّة والمجتمع المدني، ومع وجود مستوى عيش مقبول لدى نسبة واسعة من الناس (ويعود ذلك بشكل جزئي على الأقلّ الى استفادتهم من علاقات الهيمنة الامبريالية لبلادهم على بلدان الجنوب، بما يسمح لهم باستهلاك المواد الأوّلية المستوردة من خضر وغلال، الى جانب الوقود اللازم لسياراتهم ومصانعهم بأسعار بخسة)، يصبح من سابع المستحيلات أن يفوز أيّ حزب تقدّمي يحمل مشروعًا للتغيير الجذري لصالح الأغلبية، بما في ذلك الفقراء والمهاجرون والسكان الأصليون والمثليّون جنسيًا، في الانتخابات.

 

عن وهم “الانتقال الديمقراطي” في تونس

في انتخابات 2011 لم تكن الصورة بعد بهذا الوضوح في ذهني. فرغم بداية اكتساح “المال السياسي” للحياة السياسية (وكم آلمني انخراط حزبي السابق – الديمقراطي التقدّمي الذي صار “جمهوريًا” – في افسادها عبر تدشينه الإشهار السياسي و”انفتاحه على رجال الأعمال”)، كنتُ أعتقد أنّ حداثة “التجربة الديمقراطية” في ظلّ “الزخم الثوري” كفيلة بإعطائنا مشهدًا ديمقراطيًا متوازنًا.  ولذا صوّتتُ لحزب العمّال وساهمتُ في الدعاية لحزب المؤتمر من أجل الجمهوريّة (قبل أن يخيّب المرزوقي ظنّي بقبوله رئاسة شكليّة تحت هيمنة حركة النهضة).

بعد تلك الانتخابات فهمتُ أنّه تمّ التأسيس لـ “لعبة ديمقراطية” مغشوشة، لا تختلف كثيرًا عن “ديمقراطية كندا”، سوى في شكل انحطاط أغلب لاعبيها. لكنّ الطبيعة المتحرّكة للأوضاع بسبب تواصل الاحتجاجات الاجتماعيّة في الشارع، وخطر هيمنة اليمين على المشهد السياسي في لحظة ما، دفعاني للاعتقاد بضرورة “انقاذ المركب” والتفكير بمنطق “التقليل من الخسائر”. ولذا صوّتت، وشاركت في الدعاية، لصالح الجبهة الشعبيّة ومرشّحها حمّة الهمّامي في 2014 (وبنفس المنطق صوّتُت للمرزوقي في الدور الثاني). ولا أُخفي أنّ نفس المنطق جعلني أفضّل تحالف اليمينيْن، المتديّن والحداثوي، في الحكم على أن يتنازعانه. وذلك خوفًا على البلاد وشعبها من تكرار “السيناريو المصري”.

اليوم، بعد مرور أربع سنوات، ترسّخت قناعتي بأنّ هذه “اللعبة الديمقراطية” فاسدة تمامًا. فلا رقابة أصلاً على تمويلات الأحزاب، فما بالك بنفقاتها الانتخابيّة.  ولا “تعديلُ” جدّي على وسائل “اعلام” يتحوّل فيها الأنذال “المتنسّمون” الى صُنّاع سياسيين، والديماغوجيون الجهَلة من المعلّقين من نوع العماري وبوغلابّ وعكاشة والورتاني إلى “صنّاع رأي”، فضلاً عن براعتها في غسل دماغ الناس بسموم الايديولوجيا الليبراليّة، دون الحديث عن تدمير الذائقة العامّة على يد سامي الفهري ومسلسلاته. وحدّث ولا حرج عن أغلب “المجتمع المدني” المنخرط، بكثير من حسن النيّة المتاخمة للسذاجة، في مشاريع “اللامركزيّة” و”تمكين المرأة” و”الأقلّيات” و”محاربة التطرّف” و”الحوكمة الرشيدة” و”الحكم المحلّي” والخ ممّا يقترحه عليهم “المموّلون”. خاصّة أولئك المقتنعين منهم بأنّ البنك العالمي والاتحاد الأوروبي أو منظمة “الشفافية الدولية” أو جورج سوروس أو غيرهم يفعلون ذلك حرصًا على نجاح “التجربة الديمقراطية التونسية” (أشير عرَضًا إلى أنّه سبق لي أن عملت اضطرارًا في أُطر ذات تمويل أجنبي، لكنّي لم أتوهّم يومًا نُبل غايات المموّلين، وحرصت عند الضرورة على وضع بعض الخطوط الحمراء).

الواقع باختصار أنّنا نعيش في تونس، منذ 2011، انتقالاً لا نحو مزيد من الديمقراطية، بمعناها العميق الذي يعني حكم الشعب لنفسه. بل انتقالاً نحو مزيد من الفقر والتخلّف والتبعيّة والخضوع لهيمنة البلدان الامبريالية (أي تلك البلدان الرأسمالية الكبيرة التي تستعمرنا بشكل غير مباشر). وهو نفس المسار الذي شرع فيه بورقيبة – خاصّة منذ اختار سياسة الانفتاح الليبرالي مع الهادي نويرة – وكرّسه بن علي بانضمامه لمنظمة التجارة الحرّة وتوقيعه اتفاقية التبادل مع الاتحاد الأوروبي. إلّا أنّ تجسيد هذا المسار يصبح أسهل وذي وتيرة أسرع في ظلّ “الشرعية الديمقراطية”، المستمدّة من “الصندوق الانتخابي”، مقارنة بما يمكن تحقيقه قسرًا ودون اقناع في عهد الاستبداد المطلق، الذي كان يخشى رغم صلفه انتفاض الناس ويفضّل المساومة مع “السيّد الأبيض” حرصًا على بقائه في الحكم.

ولا أمل يُرجى في من لم يفهم ذلك بعد من إرساء صندوق النقد الدولي (الذي تتحكّم فيه هذه الدول) وباقي المؤسسات المالية الدولية الرديفة (البنك الأوروبي، البنك الافريقي، وكالة التعاون الألمانية، وكالة التعاون الفرنسية، وزارة التجارة الأمريكية والخ) لما يشبه “الكوميسيون المالي” الجديد (وهو كما القديم برئاسة شكليّة من أبناء البلد) الذي تفنّن في فرض شروط وقوانين تفقّر أغلبية الشعب لصالح أقلّية من “المستثمرين” في عرقه ودمه (من تعويم الدينار الى  تجميد الأجور والانتداب في القطاع العامّ، فرض مجلّة الاستثمار وقانون الشراكة بين القطاعين العامّ والخاصّ، قانون استقلالية البنك المركزي، قريبًا فرض توقيع اتفاقية التبادل الحرّ المعمّق والشامل مع الاتحاد الأوروبي والخ.). ومن لم يفهم ذلك اليوم، قد يعيه غدًا متأخّرًا عندما يستفيق ذات صباح، كما حصل لأجدادنا، على وقع جيوش “الحماية” القادمة لاستخلاص “مستحقّاتها” المتأخّرة.

 

ولهذا كلّه، ولغيره، اقتنعتُ شخصيًا – وكثيرون مثلي – بأنّنا عدنا اليوم إلى مربّع “الكفاح من أجل التحرّر الوطني”. نعم يا سادة، معركتنا اليوم شبيهة بمعركة أجدادنا، رغم تشعّب ظروفها وتبدلّ العالم من حولنا نحو الأسوأ. هي معركة استرداد “السيادة الوطنية” وإرساء ديمقراطيّة شعبيّة حقيقيّة، يحكم فيها الشعب نفسه بعيدًا عن اكراهات رأس المال أو شروط السيّد الامبريالي. ومعركة كهذه لا يمكن أن يُحقّق فيها النصر بالمشاركة في “لعبة انتخابيّة” مبنيّة على قواعد مغشوشة وبموازين قوى مختلّة ولا يمكن تعديلها من داخلها. بل يكون ذلك عبر الانخراط في النضال الثوري، مع الفئات المفقرّة والمستغلّة من أبناء شعبنا وأمّتنا، من أجل التحرّر الوطني والقومي، وبناء نظام اقتصادي وسياسي غايته تلبية حاجيات أغلبية المجتمع، وليس تكديس الثروة في يد حفنة من “المُلاّك” فيما يعيش البقيّة “كَرّايَة” تحت سياط التفقير والبطالة والتجهيل.

 

حول مخاطر مشروع “اللامركزية”

ولمن لم يقنعه ما سبق من حجاج، إليه بعض معلومات  عن مشروع “اللامركزية”، الذي تمثّل الانتخابات البلديّة حجز الزاوية في بداية ارسائه:

– كان القانون الأساسي المنظمّ للبلديات الصادر في ماي 1975 يحصر امكانية الاقتراض في صندوق القروض البلدية والمؤسّسات العمومية (فصل 68).

– ليأتي بن علي و”نظرته الاستشرافية” ووزيره للداخلية رفيق الحاج قاسم ويعدّلوا هذا القانون سنة 2006، بإدخالهم امكانية الاقتراض من “المؤسسات المختصة” (أي البنوك ضمنيا). على الهامش: رغم صورية برلمان بن علي، صُدمت عند اطّلاعي على مداولات مجلس النوّاب، لعدم توجيه هؤلاء ولو استفسارًا واحدًا حول الموضوع للوزير واللجنة التي قدّمت مشروع هذه التعديلات). وبالمناسبة كان تبرير وزير بن علي – منذ ذلك الحين – هو “الحرص على دعم اللامركزية”…

– الّا أنّ هذا التعديل لم يُطبّق عمليًا (حسب تأكيد كاتب عامّ بلدية مخضرم). إذ لم تبادر (وربّما لم تسمح السلطة) لأيّ بلدية بالاقتراض من البنوك (سواء عمومية أو خاصّة) باستثناء بلدية مدينة تونس التي سُمح لها بالحصول حتّى على تمويلات من الخارج.

– واليوم بفضل مجلّة الجماعات المحلّية العتيدة (التي كادت أن تتحوّل إلى احدى “مطالب الثورة”)، صار بإمكان البلديات لا فقط أن تقترض. بل كذلك صار لها الحقّ في “الاقتراض الخارجي” (الفصل 150). هذا فضلاً عن امكانيّة التداين المُقنّع المترتّبة عن الخسارات المحتملة من عقود الشراكة مع القطاع الخاصّ (معروف لدى المختصّين أنّ الدولة هي من تتحمّل التبعات الماليّة لخسارة هذا النوع من الشراكة).

– من “الصلاحيات المنقولة” من السلطة المركزية للبلديّات حسب نفس المجلّة (الفصل240): بناء وصيانة المؤسّسات الصحّية، التربوية، الثقافية والرياضيّة. هناك تنصيص على ضرورة نقل الموارد المالية الضرورية لذلك. لكن بما أنّ السلطة المركزية – كما نعلم – متجّهة منذ سنوات في التخلّي عن واجبها في مختلف هذه المجالات لصالح رؤوس الأموال، لنا أن نستنتج أنّ الأمر لن يكون مختلفًا في المستوى المحلّي. يعني سواء عبر الاقتراض من البنوك، أو عبر “الشراكة مع القطاع الخاصّ” وهذه الشراكة تعني باختصار أنّ “الشريك الخاصّ” يتكفّل بإنجاز المنشأة ثمّ يكتريها لمدّة طويلة من البلدية مقابل منحه حقّ تسعير الخدمة التي كان يوفّرها “المرفق العمومي” إلى الشريك الخاصّ. وهذا التسعير سيأخذ طبعا بعين الاعتبار مصلحة الشريك الخاصّ وأرباحه، فضلاً عن أرباح البنك الذي سيقترض منه وشركة التأمين التي ستأمّن المشروع والخ.

الخلاصة باختصار: لا هدف لهذا المشروع المفروض والمموّل (عبر قروض مشروطة) من البنك العالمي والبنك الافريقي وفرنسا وغيرها (القوى الامبريالية بلغتنا الخشبية) – وبدعم من “المجتمع المدني” الليبرالي- سوى مزيد فتح الباب أمام الرأسمال الخاصّ (الخارجي أساسا والمحلّي المرتبط به عرضًا) لتحقيق الأرباح في مجالات كان يُفترض أنّها من مسؤولية الدولة.

أخيرًا، لست ممّن يتوهّمون امتلاك الحقيقة المطلقة، ولا أسمح لنفسي بإدانة من مازالوا يعتقدون أنّ المشاركة في الانتخابات هي “جزء من المعركة”. ولا أخفي أنّني قد أسعدُ لرؤية انتصار بعض القائمات اليساريّة هنا أو هناك. فالناس يحتاجون أيضا لرؤية نماذج ملموسة لما ندافع عنه من أفكار وبدائل. ولا أخفي أنّني كنت أتمنّى مثلا رؤية المناضل الطاهر الطاهري أو أحد رفاقه بجمعية حماية واحات جمنة على رأس بلديّتها، لما قد يتيحه ذلك من دفعة قويّة لتجربة التأميم الشعبي للهنشير، ولست ممّن يغفلون مثلا أهمّية الأثر الذي تركه في نفسي، ويمكن أن يتركه في غيري، الاطّلاع على انجازات “التجربة الاشتراكية” لقرية مارينيلادا الاسبانيّة بقيادة عمدتها المُنتَخَب المناضل خوان مانويل ڨوردِيُو. لكنّي كذلك ممّن يدركون أنّ الجزء لا يُحدّد الكُلّ، وأنّ جمال التفاصيل لا يمكن أن يُغنينا عن رؤية كامل المشهد بكلّ ما فيه من قبح. فمن دون ذلك لن يتسنّى لنا تقويض القديم وبناء الجديد على أنقاضه.

 

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *