ميزانية 2018 : حربٌ على الشعب وانحيازٌ لِلُُّوبيات والمصالح الاستعمارية


(التحرير: رغم مصادقة البرلمان على مشروع ميزانية السنة المقبلة ببعض التعديلات، ننشر هذه الدراسة، بالغة الأهمّية، التي قام من خلالها الد. مصطفى الجويلي، الأستاذ الجامعي في الاقتصاد، بعمليّة تشريح لا فقط لمشروع ميزانية السنة الجديدة، بل وكذلك لهيكلة الاقتصاد التونسي برمّته. ونحن نجدّد شكرنا له على مدّنا بها، وندعو الجميع للاطّلاع عليها نظرًا لأهمّية وجودة مضمونها ولراهنيّته المستمرّة).

 

مصطفى الجويلي

د. مصطفى الجويلي، باحث وأستاذ جامعي في الاقتصاد.

يأتي مشروعيْ قانون المالية و ميزانية الدولة لسنة 2018  في ظلّ أزمة اقتصادية و اجتماعية (وسياسية أيضا) خانقة، تمظهرت أساسا في تباطؤ النمو وارتفاع نسب المديونية وتفاقم العجز التجاري وتدهور قيمة الدينار الى جانب تدهور المقدرة الشرائية لعموم التونسيين، و كذلك ارتفاع معدلات البطالة وتوسّع دائرة الفقر والتهميش.

وعلى عكس ما يروّج له الخطاب الرسمي، فإنّ هذه الأزمة ليست وليدة الظرف الراهن (الوضع الامني والتهديدات الارهابية وعدم الاستقرار وطبيعة المرحلة الانتقالية…). بل هي نتيجة مباشرة لخيارات اقتصادية واجتماعية لم تقطع في جوهرها مع الخيارات السابقة ومع واقع الارتهان لمصالح الرأسمال الاستعماري العالمي والحفاظ على مصالح الطبقات المحلية المرتبطة به.[i]

لذلك فإنّ مشروع قانون المالية ليس معزولا عن هذه الخيارات و لا منفصلا عن جملة القوانين والمشاريع المؤسّسة لها (مجلة الاستثمار، قانون الطوارئ الاقتصادية، القانون الأساسي للبنك المركزي، قانون الشراكة بين القطاعيْن العامّ والخاصّ…)، التي مرّرتها الديمقراطية المغشوشة للأغلبية اليمينيّة الحاكمة.  كما أنّ التعاطي مع مشروعيْ قانون الماليّة وميزانية  الدولة لسنة 2018  يجب أن يتجاوز القراءة التقنية  التي تقف عند الارقام و الموازنات الحسابية. فالميزانية ليست ملفًا تقنيًا محاسبتيًا بل ملفًّا سياسيًا طبقيًا يكشف بوضوح جوهر التحالف الحاكم والمصالح الطبقية التي يدافع عنها.

لا يمكن أيضا أن نقف عند ردّة الفعل السطحية التي تُلخّص جوهر هذا المشروع في عنصر الاجراءات الجبائية الاستثنائية وانعكاساتها السلبية على المقدرة الشرائية لعموم التونسيين. فالسياق الذي جاء فيه المشروع وما ورد فيه من إجراءات يتجاوز بكثير مسألة تدهور المقدرة الشرائية ليصبح استكمالا لمسارين مترابطين. يهدف الأول إلى تفكيك ما تبقّى من النسيج الاقتصادي الوطني وإعادة هيكلته بما تقتضيه إملاءات المؤسسات المالية العالمية و مصلحة الشركات الرأسمالية العالمية و القوى الاقتصادية المهيمنة. أما الثاني فيهدف الى دعم موقع وسلطة الشريحة الرثّة و الأكثر تعفّنا من الكمبرادور، والمرتبطة عضويا بالفساد كمجال رئيسي للنشاط ومراكمة الأرباح. وسنحاول تبيان هذه النقاط من خلال تحليل المنطق العام والخيارات الكامنة وراء قانون المالية و الوقوف عند أهمّ تفاصيله.

  • الفرضيات المغلوطة : سوء في التقدير أم سلوك مُمنهَج؟

يُقدَّرُ حجم ميزانية الدولة لسنة 2018 بـ 35951 مليون دينار، أيْ بزيادة قدرها 4،3 % مقارنة بالنتائج المحتمَلة لسنة 2017. كما يُنتظر أن يستقرّ مستوى عجز الميزانية في حدود  4،9 % مقارنة بـ 6،1 %  محتمَلة لسنة 2017.   و قد اعتمدت هذه التقديرات على جملة من الفرضيات هي :  نسبة نمو بـ 3 % بالأسعار القارة لسنة  2018، معدّل سعر النفط الخام من نوع “البرنت”  لكامل السنة بـ 54 دولار للبرميل الواحد، ومستوى سعر صرف  الأورو بـ  2،99 دينار.

هذا يعني أن تحقيق التوازنات المالية المُرتَقَبة لجهة حجم المداخيل (الجبائية وغير الجبائية) وتوزيع النفقات ومستوى العجز يرتبط بتوفّر الشروط الثلاث مجتمعة: نسبة النموّ، سعر الصرف وسعر برميل النفط.

اعتمد تقدير سعر النفط على التوقعات والنتائج المحتملة لسنة 2017. ذلك أنّ ميزانية 2017 توقّعت أن يكون سعر النفط في حدود 50 دولار للبرميل، ليتم تحيين هذا المؤشر إلى مستوى 53 دولار بعد أن ارتفع سعر النفط في الأسواق العالمية[ii]. أمام المنحى التصاعدي لأسعار النفط  اكتفى مشروع ميزانية 2018  بزيادة دولار واحد،  مقارنة بمعدل السعر المحيّن في 2017،  ليعتمد على معدّل سعر بـ 54 دولار  متوّقَع لكامل سنة 2018. ولئن أخذ هذا التقدير بعين الاعتبار الاحتمالات المؤكدة بتواصل ارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية إلاّ أنّ نسبة الارتفاع المحتملة (1 دولار )  تبقى دون النسب المتوقعة من طرف المختصين والمتابعين لحركة أسواق النفط في العالم.

يكفي أن نشير هنا إلى أنّ سعر برميل النفط  الخام (برنت) قد تجاوز عتبة الـ 60 دولار خلال الاسابيع الاخيرة من شهر نوفمبر 2017. وهذه النزعة نحو الارتفاع قد تتواصل حسب تقديرات الوكالة الدولية للطاقة، خاصة بعد الاتفاق الحاصل بتاريخ 5 اكتوبر الفارط بين العربية السعودية وروسيا حول مواصلة التخفيض في الانتاج اليومي للنفط الى ما بعد مارس 2018.  وسيشمل هذا القرار  بتخفيض مستوى انتاج النفط كافّة البلدان الاعضاء في “منظمة البلدان المصدرة للنفط OPEP ” بعد أن أصبح محلّ اتفاق خلال الاجتماع الذي عقدته المنظمة يوم 30 نوفمبر المنقضي بفيانا.

الفرضيّة الثانية التي اعتمدها مشروع ميزانية 2018 هى نسبة نموّ تقدّر بـ 3 % بالأسعار القارّة  (باحتساب التضخّم). وكما في السنوات السابقة،  اعتمدت الحكومة في هذا الشأن على تقديرات صندوق النقد الدولي بخصوص تطور الوضع الاقتصادي في تونس رغم ان التجربة أثبتت أنّ كلّ توقّعات هذا الصندوق كانت مغايرة تمامًا للواقع. وبقطع النظر عن مدى واقعية فرضيات صندوق النقد الدولي، فإنّ تحقيق نسبة نموّ بـ 3 % لسنة 2018 يبدو في الواقع الراهن للاقتصاد التونسي، وفي ظلّ الخيارات القديمة المتجدّدة، أمرًا مستحيلاً. ذلك أن تحقيق مثل هذه النسبة يتطلّب شرطين أساسيّين. يتمثّل الأول في تطوّر الطلب بِعُنصريْه الداخلي والخارجي. إلاّ أنّه وقع نسف إمكانيات تطوّر الطلب الداخلي مُسبَقًا بمقتضى الإجراءات الواردة في نفس مشروع قانون المالية وميزانية الدولة لسنة 2018.

إذ اعتمد المشروع لتجميع الموارد على جملة من الإجراءات، التي تمثّلت أساسًا في ترفيع الأداء على القيمة المضافة، والأداء على الاستهلاك، والترفيع في معاليم تسجيل العقود ومعاليم خدمات الأنترنات والهاتف والخ. أمّا من جهة النفقات، فإنّ المشروع يقترح ضغطا على نفقات دعم المواد الأساسية والمحروقات.

ستنعكس هذه الإجراءات ومثيلاتها مباشرة في شكل ارتفاع في أسعار الاستهلاك (مواد غذائية، محروقات، كهرباء، غاز، نقل…)، ممّا سيساهم في مزيد تدهور المقدرة الشرائية لعموم التونسيين، خاصّة أمام غياب أيّ إرادة للتحكّم في الأسعار ونسب التضخّم، التي سترتفع حسب التقديرات إلى مستوى 6،4 %  سنة 2018، مقابل 5،7 % مُحيَّنَة لسنة 2017[iii] (نسبة التضخّم ستكون أعلى من التقديرات. وللتذكير قدّر مشروع ميزانية 2017  نسبة التضخم للسنة المنقضية بـ 4،7 %،  الّا أن الأرقام المُحيَّنة في أوت الماضي تشير الى نسبة تضخم بـ 5،7 %). سيؤثّر هذا المنحى التصاعدي المتسارع للأسعار ونسب التضخم سلبًا على حجم الطلب الداخلي ونسق تطوّره، وبالتالي على مساهمته في دفع نسبة النموّ.

أمّا وتيرة تطوّر الطلب الخارجي، أي إمكانيّات التصدير، فيُرتقَب أن تظلّ على ضعفها، في خضم الأزمة الاقتصادية العالمية. وخاصة لضعف النمو في الاتحاد الأوروبي، بوصفه الشريك التجاري الأوّل لتونس. وهذه مسالة سنتناولها بأكثر تفصيل في عنصر لاحق، ذي علاقة بمجمل الاجراءات المقترحة للتخفيض من عجز الميزان التجاري.

يتمثّل الشرط الثاني في تطوّر جدّي للاستثمار في القطاعات المنتجة على وجه الخصوص. إلا أنّ ما جاء في مشروع قانون المالية 2018 لا يحتوي أيّ إجراء من شأنه الدفع بالاستثمار العمومي وجعله قاطرة لحركيّة اقتصادية جدّية قادرة على المراكمة والإنعاش الحقيقي للاقتصاد. وفي انسجام تامّ مع إملاءات الدائنين، الداعية إلى انسحاب الدولة وتخلّيها عن دورها الاقتصادي، أُوكِلَت هذه المهمّة إلى الاستثمار الخاصّ عبر سياسة الحوافز والتشجيعات. وهي سياسة أثبتَت فشلها في ظلّ استثمار خاصّ يبقى في معظمه طُفيْلي ومنحصر في دوائر المناولة والمضاربة، وبالتالي هو موضوعيا غير قادر على تحقيق النموّ المرتقب. سنتناول هذه النقاط لاحقا بأكثر تفصيل، لكن تجدُر الاشارة هنا إلى أنّ حجم ميزانية الدولة  لسنة 2018 يُقَدَّر بـ 35,951 مليار دينار، أي بزيادة قدرها 4،3 % مقارنة بالنتائج المحتملة لسنة 2017. لكن اذا ما اعتمدنا الأسعار القارّة (أيْ باحتساب نسب التضخّم المُقدّرة بـ 6،4 %)  فإنّه، وعلى عكس ما يروّج له، سينخفض حجم ميزانية الدولة لسنة 2018 بنسبة 2،1 % مقارنة بالنتائج المحتملة لسنة 2017.  وهذا ما يتناقض تمامًا مع هدف انعاش الاقتصاد ودفع النموّ المُعلَن في مشروع قانون المالية.

تتمثّل الفرضية الثالثة في سعر صرف الأورو  المُقدَّر بـ 2،99 دينار كمعدّل لسنة 2018، مقابل 2،69 محينّة لسنة 2017، وهو ما يعني انخفاضا في قيمة الدينار بنسبة 11 % مقارنة بالاورو (في الميزانيات السابقة وقع اعتماد سعر صرف الدولار  ولا يتضمّن مشروع 2018 أيّ تبرير لاستبدال الدولار بالأورو). و تجدر الإشارة إلى أنّ قيمة الدينار تراجعت بين 2010  و2017  بنسبة 52 %، مقارنة بالاورو،  وبنسبة 69 % مقارنة بالدولار . هذا يعني أنّ الدينار سيواصل تدهوره الذي سيتجاوز سنة 2018 تقديرات مشروع قانون المالية، أيْ أنّ سعر صرف الاورو سيستقرّ لا محالة في مستوًى أعلى من 2،99  دينار.

في الواقع، إنّ النزعة نحو التدهور المتواصل للدينار ليست مجرّد فرضية لصياغة مشروع الميزانية  أو نتيجة مباشرة للوضع الاقتصادي المأزوم. بل هي نتيجة لسياسة مُمَنهَجة ومتناغمة مع إملاءات المؤسسات المالية العالمية. لذلك، فإنّه رغم الحديث الرسمي المتكرّر عن تدهور الدينار وانعكاساته السلبية لم تتخّذ الحكومات المتعاقبة أيّ إجراء من شأنه أن يدعم قيمته أو يمنع انزلاقه مقارنة بالعملات الأجنبية. قد يجيبنا هنا “خبراء السلطة” بأنّ المحافظة على قيمة الدينار ليست من مشمولات الحكومة بل هي مهمّة البنك المركزي. إّلا أنّ هذا البنك المركزي، الذي أراد له صندوق النقد الدولي أن يكون  “مستقلاً”، قد تخلّى عن هذه المهمّة[iv]. بل إنّ قيمة الدينار أمسَت خاضعة لضغوطات صندوق النقد الدولي في إطار اتفاقيات القروض[v]، التي يدفع من خلالها  الصندوق  نحو مزيد التخفيض من قيمة الدينار خدمةً لمصالح الاحتكارات الرأسمالية العالمية[vi]. 

ففي تقريره الأخير (جويلية 2017)، قدّر صندوق النقد أنّ قيمة الدينار التونسي مازالت مرتفعة بنسبة 16 %  مقارنة “بقيمته الحقيقية”،  وعليه يجب أن يكون سعر الصرف في مستوى 2،87  دينار للدولار الواحد. و اذا اعتمدنا الأورو  فإنّ سعر الصرف قد يبلغ خلال الأشهر الأولى من سنة 2018  حدود 3،3 دينار للأورو  الواحد ، أيْ بتراجعٍ قدره 10 % مقارنة بتقديرات مشروع الميزانية.

من الواضح إذن أنّ الفرضيات الثلاث (نسبة النموّ ، معدّل سعر النفط  وسعر الصرف)، التي بُنِي عليها مشروع ميزانية 2018، غير واقعية. وهو ما يعني أنّ الموازنات العامة المنصوص عليها في هذا المشروع وهمية و غير قابلة للتحقيق. يكفي فقط أن نشير هنا إلى أنّ زيادة دولار واحد في سعر برميل النفط يكلّف ميزانية الدولة كُلفة إضافية بـ 40 مليون دينار وأنّ سعر صرف أعلى ممّا هو متوقع يعني ارتفاع خدمة الدين مقارنة بالتقديرات (راجع مقال طارق قرباية في نفس الكتاب). عمومًا، يعني عدم ملائمة الفرضيات للواقع بالنسبة لميزانية الدولة كلفة أكبر ومداخيل أقل، أيْ نسبة عجز أعلى من التوقعات. وهو ما سيدفع الدولة إلى المزيد من التداين من جهة، وإلى الضغط على النفقات (الاقتصادية والاجتماعية خاصّة) من جهة ثانية.

ليست المسألة مجرّد سوء في التقدير من قِبَل من أشرف على صياغة مشروع الميزانية. بل سلوكًا ممنهجا تسعى من خلاله حكومة التحالف اليميني من ناحية إلى تقديم مشروع بموازنات في ظاهرها سليمة، حتى يسهل تمريره؛ ومن ناحية أخرى، إلى إيهام التونسيين بتحسّن منظور في أوضاعهم، عبر المؤشرات المغلوطة، حتّى يسهل ابتزازهم وحملهم على مزيد “التضحية من أجل المصلحة الوطنية”.  أما الأهمّ في نظرنا فهو أنّ اعتماد فرضيات مغلوطة ليس إلا تهيئة لميزانية تكميلية سيُطَاَلب فيها التونسيون بتضحيات جديدة.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّه قد تمّ اعتماد 14 ميزانية في السبع سنوات الأخيرة: 7 ميزانيات عادية و7 ميزانيات تكميلية. الأمر الذي يبيّن أنّ ضعف التحالف الحاكم يدفعه إلى تجزئة المعارك، وأنّ الميزانيات التكميليّة، التي من المفروض أن تكون استثناءً، تحوّلت الى قاعدة و أصبحت تكتيكا مُتبَّعًا من طرف الحكومات المتعاقبة للتمرير التدريجي والناعم لكلّ الإجراءات المعادية للوطن والشعب. ومن هذا المنطلق يمكن الجزم أنّ اعتماد فرضيات مغلوطة ليس جهلا أو غباءً، بل، كما أشرنا سابقا، يسعى إلى تقديم مشروع بموازنات في ظاهرها سليمة حتى يسهل تمريره وفي نفس الوقت يهيّئ لميزانية تكميلية. وبعد تمرير مشروع الميزانية بأشهر سنكتشف هكذا فجأة أن كلّ التوقّعات مغايرة للواقع وأنّ كلّ التوازنات ستختلّ وتعود الآلة الإعلامية لخطاب الكارثة وشبح الإفلاس. وقتها ستقترح الحكومة  ميزانية تكميلية تضع فيها التونسيين أمام ضرورة القبول بمزيد “التضحيات” وإجراءات أخرى قد تتجاوز تجميد الأجور والانتدابات، لتشمل التخلّي  الكلّي عن الدعم والتفويت في ما تبقى من المؤسسات العمومية والخدمات الاجتماعية. كما يمكن لهذه الميزانية التكميلية أن تكون أداةً للتغطية على الفساد، وهو ما يبرز في الارقام الغامضة وغير المُبرَّرة بالميزانية التكميلية لسنة 2017، خاصّة في ما يتعلّق بنفقات التأجير والدعم.

  • بين تجميع الموارد والتقشّف : من يتحمّل كلفة الخيارات الفاشلة؟

ليست الميزانية مجرّد دفتر حسابات تستوي فيه رياضيًا جملةٌ من المعادلات والموازنات المالية. بل هي ترجمة مباشرة للخيارات الاقتصادية والاجتماعية غير المنفصلة موضوعيا عن المصالح الطبقية. يجب إذن أن يتجاوز التعاطي مع مشروعيْ الميزانية وقانون المالية منطق الأرقام والجداول ليرصُد الخيارات المؤسّسة لهما، ومن يتحمّل كلفتها.

ينطلق مشروع قانون المالية من واقع الأزمة الاقتصادية الخانقة و ما يتطلبه من إجراءات استثنائية، وهي مسألة لا يختلف فيها اثنان. إلّا أنّ الحكومة، في تناغم مع مقاربة المؤسسات المالية العالمية، تحصر الأزمة أساسا في اختلال التوازنات المالية. لهذا فإنّ تصوّر قانون المالية ومشروع الميزانية لم يكن محكوما بتعزيز قدرة الدولة على الاستثمار والتشغيل و الحدّ من المديونية وحماية النسيج الاقتصادي الوطني وتحسين ظروف حياة التونسيين عموما. بل كان محكوما فقط بضرورة الحفاظ على عجز الميزانية في الحدود التي تسمح بها المؤسسات المالية العالمية. ومن هذا المنطلق، استهدفت الإجراءات الاستثنائية المقترَحة تجميع موارد إضافية من جهة، و التقشّف للضغط على النفقات من جهة أخرى.

حسب ما ورد في تقرير مشروع ميزانية 2018، يتمثّل أحد الاهداف في “دعم الموارد الذاتية للدولة، خاصة الجبائية منها، من خلال اتخاذ جملة من الاجراءات الجديدة ومزيد مقاومة التهرب الضريبي” (صفحة 21).  و بذلك تُقدّر الموارد الذاتية للدولة لسنة 2018  بـ26415 مليون دينار مقابل 24125 مليون دينار محيّنة في سنة 2017، أي بزيادة قدرها 2290 مليون دينار أو 9،5 %.  إلّا أنّ الوقوف عند تفاصيل هذه الزيادة يكشف بشكل واضح أنّ “مقاومة التهرّب الضريبي” ليس إلّا مجرّد شعار ترفعه الحكومة.

تنقسم الموارد الذاتية للدولة الى موارد جبائية و موارد غير جبائية. من المفروض إذن أن نجد أثر “مقاومة التهرب الضريبي” في تطوّر المداخيل الجبائية. أيْ  أنّ الزيادة المرتقبة في الموارد الجبائية يجب أن تكون متأتّية من ثلاث عناصر:  الإجراءات الاستثنائية، النموّ الاقتصادي الذي يؤدي ضرورة الى توسع القاعدة الجبائية،  ومردود “مقاومة التهرب الضريبي”. وهو ما يتطلّب تفحّصا دقيقا لتطوّر المداخيل الجبائية المرتقب في سنة 2018.

حسب تقرير مشروع ميزانية 2018، من المنتظر أن ترتفع الموارد الجبائية للدولة الى 23484 مليون دينار مقابل 21250 م.د محيّنة في 2017، أيْ بزيادة قدرها 2234 مليون دينار أو 10،5 %.  وتنقسم الموارد الجبائية بدورها الى أداءات مباشرة وأداءات غير مباشرة. ومن المنتظر أن ترتفع الأداءات غير المباشرة  الى 15099 مليون دينار سنة 2018،  مقابل 12549 سنة 2017؛  أيْ بزيادة قدرها 2550 مليون دينار أو 20،3 %.

أمّا الأداءات المباشرة فستبلغ حسب التقديرات 8385 مليون دينار سنة 2018 مقابل 8701 محتملة لسنة 2017، أي بتراجع قدره 316 مليون دينار أو نسبة نموّ (سلبية) بـ 3،6 -%. وحسب تقرير مشروع الميزانية فإن التراجع يعود الى تراجع الضريبة على الدخل، في علاقة بمواصلة الاعتماد الجبائي وتراجع الضريبة على الشركات، في علاقة بالمساهمة الظرفية الاستثنائية لسنة 2017. إلّا أنّ هذا التبرير لا يخلو من المغالطة. ذلك أنّ النقص الحاصل بسبب انتهاء العمل بالساهمة الظرفية الاستثنائية (7،5 % على أرباح الشركات في 2017) قد وقع تعويضه بإحداث معلوم اضافي ظرفي لفائدة ميزانية الدولة لسنة 2018 (5% على أرباح البنوك والمؤسسات المالية) كما ورد في الفصل 54 من مشروع قانون المالية، إلى جانب الترفيع في الضريبة المستوجبة على الأرباح الموزّعة من 5 % الى 10 % (الفصل 47)، وكذلك إخضاع التأمينات التعاونية للضريبة على الشركات بنسبة 35 %  (الفصل 30). أمّا بالنسبة للانعكاس السلبي لمواصلة العمل بالاعتماد الجبائي على مداخيل الضريبة على الدخل، فقد وقع تعويضه، ولو جزئيا، بمقتضى إحداث الضريبة التضامنية الإجتماعية (الفصل 55).

اعتمادًا على هذه المعطيات، وباعتبار أنّالمفعول السلبي الناجم عن انتهاء العمل بالإجراءات الاستثنائية لسنة 2017 قد وقع تعويضه بإحداث اجراءات استثنائية اخرى، فإنّه يُفترض أن تتطور المداخيل الجبائية المباشرة، وخاصة الأداء على ارباح الشركات على الاقل، بنفس نسبة النمو (3 %). أو في أسوء الحالات، أن تحافظ على نفس مستواها لسنة 2017. إلا أنّ ما ورد في مشروع ميزانية الدولة يشير الى تراجع المداخيل الجبائية المباشرة، وهو ما لا يمكن تفسيره إلا بالعودة الى آلية الاعفاءات الجبائية الممنوحة للمؤسسات الخاصّة تحت غطاء تشجيع الاستثمار (وهو ما سنتناوله لاحقا بأكثر تفصيل)  وتوسّع دائرة التهرّب الضريبي أمام غياب الارادة السياسية لمقاومته.

من الواضح إذن أنّ الارتفاع المرتقب في الموارد الجبائية لسنة 2018  يعود تحديدا الى إرتفاع حجم الأداءات غير المباشرة (بزيادة قدرها 2550 مليون دينار أو 20،3 % كما أشرنا سابقا). وتأتي هذه الزيادة من: المعاليم الديوانية بقيمة 389 م.د، الأداء على القيمة المضافة بقيمة 1000 م.د، الأداء على الاستهلاك بقيمة 568 م.د،  ومعاليم أخرى (الهاتف، الانترنات، التسجيل، الطابع الجبائي…) بقيمة 594 م.د. أي اذا استثنينا المعاليم الديوانية، فإنّ 85 % من المردود المنتظر لهذه الاجراءات سينعكس مباشرة في شكل زيادة في الأسعار عند الاستهلاك.  أيْ أنّ حكومة التحالف اليميني، في سعيها الحفاظ على مصالح الكمبرادور الطفيلي (عبر توسيع دائرة الاعفاءات الجبائية) وعلى مصالح لوبيات التهرب الضريبي والاقتصاد الموازي، تحمّل كلفة خياراتها للشرائح الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة وتدفع نحو مزيد تدهور المقدرة الشرائية لعموم التونسيين.

أمّا العنصر الثاني في الموارد الذاتية للدولة فيتمثّل في المداخيل غير الجبائية، التي من المرتقب أن تكون في حدود 2931 م.د،  مقابل 2875 م.د محتملة لسنة 2017.  أي بزيادة  ضئيلة جدا قدرها 55 مليون دينار أو 1،9 %.  و يعود هذا الضعف أساسا الى تردّي عائدات الشركات العمومية نتيجة سوء التصرف والفساد الذي يحكمها، والتي يبدو أنّ التحالف الحاكم يسعى إلى تعميق مشاكلها المالية حتى يبرّر خوصصتها في وقت لاحق.

عمومًا،  يُقدّر المردود المنتظر من الإجراءات الجبائية  الاستثنائية بـ 2000 مليون دينار، أيْ ما يعادل  8,5 % من الموارد الجبائية  و7,5 % من الموارد الذاتية و5,5 % من مجمل موارد الميزانية لسنة 2018.  في حين ترتفع الأداءات المثقلة إلى 8000 م.د، أي ما يعادل 4 أضعاف مردود الإجراءات الاستثنائية أو 34 % من الموارد الجبائية و 30 % من الموارد الذاتية و 22 % من مجمل موارد الميزانية. كما أن التهرّب الضريبي يُقدّر بحوالي 50 % من المداخيل الجبائية المنتظرة (أي أن ما يدخل ميزانية الدولة لا يمثّل سوى نصف المداخيل الجبائية الحقيقية)  أو ما يعادل 33 %من ميزانية الدولة. أمّا الاقتصاد الموازي (الذي يمثّل حوالي 50 % على أقل تقدير من الناتج المحلي الخام)  فإنّه يتسبب في خسارة جبائية (باعتبار الناتج المحلي الخام ونسبة الضغط الجبائي)  بحوالي 9500 م.د، أيْ ما يعادل 40 % من المداخيل الجبائية و 34 % من الموارد الذاتية و 26 % من ميزانية 2018.  بعبارة أخرى، تتغافل الحكومة عن موارد تفوق حجم الميزانية بأكملها وتكتفي بإجراءات استثنائية ذات مردود ضعيف جدا.

حفاظا على مصالح الكمبرادور الطفيلي ولوبيات الفساد والتهرّب الضريبي والاقتصاد الموازي تحمّل الحكومة إذن كلفة الخيارات اللاوطنية واللاشعبية للشرائح والطبقات الاجتماعية المهمَّشة والمفقَّرة. كما أنّها تبحث بهذه الإجراءات، التي تضمنها مشروع قانون المالية، عن الموارد حيث لا توجد؛ وأمام شحّة الموارد يتزايد اللجوء إلى التداين الخارجي.

حسب التقديرات، ستقترض الدولة في 2018 ما يعادل 9536 مليون دينار، منها 7336 مليون دينار في شكل اقتراض خارجي.  وبناءً على هذه التقديرات يُنتظر ان يبلغ حجم الدين العمومي 76165 مليون دينار، لترتفع نسبة التداين الى 71,4 % من الناتج المحلّي الخام. قد يرتفع أكثر هذا اللجوء المتزايد للتداين المجحف باعتبار الفرضيات المغلوطة التي بُنِيَ عليها مشروع الميزانية، وهو ما اعترف به وزير المالية في جلسة استماع بمجلس النواب، حين أشار إلى أنّ نسبة التداين قد تتجاوز 89% وقد تصل ربما الى حدود 100 % من الناتج المحلي الخام.

ستدفع هذه النزعة نحو التداين المجحف إلى المزيد من الحيف الاجتماعي وإلى تعميق مسار التفويت في المؤسسات العمومية وخوصصة الخدمات الاجتماعية، خاصّة وأنّ حكومة العَمالة قد وضعت مصير تونس تحت تصرف المؤسسات المالية العالمية. والى جانب التلاعب بالمؤشرات، فإنّ نسب التداين المرتفع تجعلنا غير بعيدين عن السيناريو اليوناني. وللتذكير، أمام التداين المجحف وجدت اليونان نفسها مجبرة على بيع بعض الجزر، أي التخلي عن جزء من أراضيها.

تُمثّل ما سُمّيت بـ “سياسة التقشف” الركيزة الثانية لمشروع الميزانيّة. نظريا، تعني سياسة التقشف الضغط على بعض نفقات الدولة اعتمادا على ترتيب تفاضلي يعكس أهمية مختلف النفقات، في علاقة بجملة من الأهداف الاقتصادية والاجتماعية. وفي الواقع الراهن لتونس، من المفترض أن تُحَدَّد معالم سياسة التقشف  في علاقة بالأزمة الراهنة وإمكانات تجاوزها.

كما أشرنا سابقا، تُقدّر ميزانية الدولة لسنة 2018 قبضا وصرفا بـ 35951 مليون دينار، أي بزيادة قدرها 4،3 % مقارنة بالنتائج المحتملة لسنة 2017.  إذا اعتبرنا نسبة التضخم المحتملة ( 6,4 % ) فإنّ حجم الميزانية بالأسعار القارّة قد تراجع  بنسبة  2,1 %،  وهو ما يؤكد طابع التقشف. الا انّ هذا الاستنتاج العام لا يعفينا من ضرورة  رصد تطور مختلف نفقات الميزانية لنتبيّن جوهر سياسة التقشف التي تسوّق لها حكومة التحالف اليميني.

يتكوّن العنصر الأول من نفقات الميزانية من نفقات التصرف التي تضمّ التأجير والتسيير والتدخلات (الدعم والتدخلات الاجتماعية)، والتي  قُدّرت بـ 22136  مليون دينار،  أيْ بزيادة قدرها 3,2 % بالأسعار الجارية  وتراجع  قدره  3,2 – % بالأسعار القارة. و حسب تقرير مشروع الميزانية يعود هذا التراجع (أو التقشف) الى “ترشيد نفقات الأجور والدعم” كأحد التوجهات والأهداف الرئيسية لسنة 2018.

لذلك تضمّن مشروع الميزانية جملة من الاجراءات مثل برنامج الإحالة على التقاعد قبل بلوغ السن القانونية، برنامج المغادرة الاختيارية وتجميد الانتدابات والخ. وستمكّن جملة هذه الاجراءات من ضبط نفقات التأجير في حدود 14751 مليون دينار، لتتراجع نسبتها في الناتج المحلّي الخام من 14,7 % سنة 2017  الى 13,8 % سنة 2018. (سنتناول هذه النقطة بأكثر تفصيل في العنوان الموالي). أمّا بخصوص نفقات الدعم (المواد الأساسية، المحروقات، النقل المدرسي)  فستكون في حدود 3520 مليون دينار، أيْ أنّها ستحافظ على نفس حجمها في سنة 2017.

لكن بالنظر إلى الارتفاع  المرتقَب لأسعار المواد الغذائية الأساسية في الأسواق العالمية (خاصة بالنسبة للحبوب والزيوت النباتية) وارتفاع سعر النفط  وتدهور قيمة الدينار والارتفاع المنطقي لاستهلاك التونسيين من سنة إلى أخرى، فإنّ الحفاظ  على نفس النفقات يعني  في جوهره التقليص في مستوى  الدعم.  لذلك يُقرّ مشروع الميزانية بضرورة مراجعة أسعار بعض المواد الاساسية بمردود مالي يقدّر بـ 330 مليون دينار، الى جانب تعديلات مرتقبة في أسعار المحروقات والكهرباء بمردود مالي يقدر بـ 1550 مليون دينار.  أي  انّ  المردود الجملي، وقيمته 1880 مليون دينار، هو ما سيتحمّله التونسيون في شكل زيادة في أسعار المواد الغذائية الاساسية والمحروقات و النقل و الكهرباء و الغاز…

أمّا نفقات التنمية المقدّرة بحوالي 5743 مليون دينار فقد حافظت تقريبا على نفس حجمها في سنة 2017، وسجّلت بذلك تراجعا بالأسعار القارة بنسبة 5,6 %.  وهو ما يبرز بشكل واضح تراجع دور الدولة في الاستثمار والتنمية. هذا بالإضافة الى  أنّ الرجوع إلى الميزانيات السابقة يبيّن أنّ نسبة تحقيق أو انجاز نفقات التنمية لم تتجاوز في المعدل عتبة 60 %، أي أنّ ما يبرمج في كل سنة كنفقات تنمية هو في جزء هامّ منه إحالات لما لم يتم انجازه في السنوات السابقة.

من ناحية أخرى، أمام اختلال التوازنات المرتقبة (نتيجة للفرضيات المغلوطة)  وارتفاع خدمة الدين،  قد تجد الحكومة نفسها أمام ضرورة التقليص في حجم نفقات التنمية؛ وهو ما حصل في سنة 2017، عندما تمّ تحيين نفقات التنمية في الميزانية التكميلية  في مستوى 5700 مليون دينار بعد ان كانت مقدرة في الميزانية العادية بـ 6110 مليون دينار.

يتعلّق الباب الأخير في النفقات بخدمة الدين العمومي الذي يقدّر في مشروع ميزانية 2018 بـ 7972 مليون دينار، أي بزيادة قدرها  12,4 % مقارنة بالنتائج المحتملة في 2017. وتقدر خدمة الدين الخارجي بـ 4544 مليون دينار.  وهذا الرقم مرجّح للارتفاع مع التدهور المنتظر لقيمة الدينار بوتيرة أسرع ممّا هو مقدر في مشروع الميزانية (كما بيّنا في العنصر الاول)،  وهو ما سينتج ضغوطات إضافية على الميزانية ويدفع الدولة إلى مزيد  تقليص نفقاتها الاقتصادية والاجتماعية خاصة.

  • تجميد الانتدابات في الوظيفة العمومية: الخوصصة الناعمة للخدمات الاجتماعية

ورد في تقرير مشروع ميزانية 2018 انّ احد الضغوطات المسلطة على الميزانية يتمثل في ” ارتفاع حجم التأجير العمومي الذي سجل زيادة بحوالي 110 %  إلى غاية 2017  مقارنة بسنة 2010 ، أي حوالي 14،7 % من الناتج المحلي الخام  مقابل 10،8 % سنة 2010 ” (صفحة 22 ).  اعتمادا على هذه الصيغة المبهمة (الخلط المقصود بين الاجور  وكتلة الاجور) و دون الوقوف عند الاسباب الحقيقية  لارتفاع كتلة الاجور، يستخلص المشروع انّ الحفاظ على التوازنات العامة  والتحكم في مستوى المديونية يتطلب التحكّم في حجم التأجير العمومي.  لذلك يقترح مشروع الميزانية بعض “التدابير الاستثنائية” (وهي ليست استثنائية في الواقع) تمثلت أساسا في تجميد الانتدابات في الوظيفة العمومية (باستثناء 3000 خطة في وزارتي الداخلية والدفاع) وعدم تعويض المحالين على التقاعد (حوالي 11800 ) والشغورات المسجلة بسبب الاستقالة  أو الوفاة أو الالحاق.

كنّا قد تناولنا هذه النقطة في مقال سابق[vii] ولكنّنا ارتأينا ان نعود عليها مرة أخرى،  لأنه بالرغم من خطورة و أهمية هذا الاجراء فان الانتقادات الموجهة لقانون المالية من طرف العديد من الاحزاب والمنظمات المهنية لم تشر اليه وتوقفت في أغلب الاحيان عند الأثار السلبية للإجراءات الجبائية الاستثنائية على المقدرة الشرائية للمواطنين أو نشاط المؤسسات الخاصة.

يبدو هذا الإجراء في ظاهره محاولة من الحكومة للضغط على بعض النفقات أمام” صعوبة الظرف الاقتصادي والضغوطات المسلطة على ميزانية الدولة”  إلا أنه في واقع الأمر ليس إلا  مواصلة لما التزمت به حكومة العمالة تجاه صندوق النقد الدولي كما ورد في “رسالة النوايا”[viii] و ما بدأت في تنفيذه في سنة 2017 .في إطار هذه الرسالة و تحت عنوان “إعادة هيكلة الوظيفة العمومية” التزمت حكومة العمالة بالشروع بداية من 2017  في تنفيذ خطة إصلاح تهدف أساسا إلى إعادة النظر في مهام ووظائف الدولة، التخفيض في عدد المشتغلين في الوظيفة العمومية، إعادة النظر في هيكلة الأجور والمنح و الضغط على كتلة الأجور لتتراجع إلى  12 % من الناتج المحلي الخام سنة 2020، وإعادة النظر في آليات تقييم الكفاءة والمسار المهني للموظفين. و لتنفيذ هذه الخطة تعهّدت حكومة العمالة بتجميد الانتدابات في كل الوزارات على مدى ثلاث سنوات ما عدى وزارتي الدفاع والداخلية، بالإضافة إلى الشروع بداية من 2018 في برنامج للتشجيع على المغادرة الطوعية للموظفين.

يستند هذا الاجراء الى فرضية ان حجم الوظيفة العمومية  تجاوز الحدود المعقولة وأصبح بذلك يشكّل عبئا على الدولة وسببا مباشرا لأزمة المالية العمومية. و حسب خبراء صندوق النقد الدولي تفترض “المعايير الدولية والعلمية” (؟!)  أن لا يتجاوز عدد المشتغلين في الوظيفة العمومية  في بلد ما  3 % من مجمل سكانه. في تونس تشغل الوظيفة العمومية  680.000 موظف، أي ما يعادل  5،4 % من مجمل السكان، وهو ما يعني انه علينا أن نتخلص من نصف الموظفين العموميين استجابة لاملاءات صندوق النقد الدولي. إلا إن المؤشر الذي يعتمده صندوق النقد الدولي و يسوّق له الخطاب الرسمي والخبراء المرتزقة  لا أساس له من الصحة، ولا علاقة له بالواقع.  و يكفي هنا أن نشير على سبيل المثال انّ عدد الموظفين العموميين يبلغ 5،2 مليون في  فرنسا  اي 74 موظف لكل 1000  ساكن (7،4 % من مجمل السكان) و 4،9 مليون في ألمانيا اي 62 موظف لكل ألف ساكن (6،2 % من مجمل السكان). في  تونس لا تتعدّى هذه النسبة   54  موظف لكل 1000 ساكن (5،4 %).

تبدو المسألة أكثر وضوحا اذا ما اعتمدنا مؤشرا أخر اكثر دقة وأكثر موضوعية وهو نسبة مساهمة القطاع العام (وظيفة عمومية و مؤسسات عمومية) في التشغيل. في تونس يشغّل القطاع العام حوالي 850000 شخص، أي ما يعادل 22 % من العدد الجملي للمشتغلين. هذه النسبة تتجاوز 30 % في فرنسا و ألمانيا وتصل الى حدود 50 %  في الصين.

 

مساهمة القطاع العام في التشغيل ( نسبة مائوية)
النسبة المئوية البلد
50 الصين
35 فرنسا
31 المانيا
27 البرتغال
29 ايطاليا
21،5 الولايات المتحدة الامريكية
19 اليابان
22 تونس
المصدر:  معطيات المكتب الدولي للعمل 2015

 

اعتمادا على هذه المعطيات يمكن ان نستنتج انه لا وجود لعلاقة ميكانكية بين حجم القطاع العام ومستوى النمو او التطور الاقتصادي. فلا احد يمكن ان يشك ان اليابان والولايات المتحدة وفرنسا والمانيا والصين هي من اقوى الاقتصاديات في العالم. في نفس الوقت تختلف نسبة مساهمة القطاع العام في التشغيل من بلد الى أخر وتتراوح بين 19 %  في اليابان و 50 % في الصين. في تونس لا يمكن ان نجزم أنّ حجم القطاع العام متضخم.  فنسبة مساهمته في التشغيل لا تختلف كثيرا عمّا هي عليه في اليابان والولايات المتحدة مثلا. و اذا اعتبرنا الشغورات التي تشكو منها العديد من القطاعات مثل التعليم الابتدائي (حوالي 4200) والتعليم الثانوي والعالي (حوالي 12000 ) والصحّة (حوالي 40000 ) وغيرها من القطاعات  يمكن ان نستنتج، على عكس ما يروّج له، انّ الوظيفة العمومية في حاجة ماسة الى انتدابات جديدة (تشير بعض التقديرات ان الوظيفة العمومية في حاجة الى اكثر من 30000 انتداب حتى نؤمّن مرفقا عموميا قادرا على تقديم خدمات لائقة). هذا يجرنا الى التساؤل التالي :  لماذا تصر الحكومة و من ورائها صندوق النقد الدولي على التخفيض في عدد المشتغلين في الوظيفة العمومية؟

قد تمكن هذه الإجراءات من الضغط على نفقات الدولة (ولو أن هذا الضغط لا يمكن أن يكون هدفا في حد ذاته) عبر التقليص من كتلة الأجور، لتصل الى نسبة  12% من الناتج المحلي الخام عملاً بأوامر السيدة كريستين لاغارد. وهي نسبة يُسوّق لها كمعيار “علمي “،  ويجب ان نتوقف عندها بشيء من التفصيل :

الناتج المحلّي الخام هو مؤشر لقياس الثروة المنتَجة سنويا في بلد ما. و تتوزع هذه الثروة بين الأجور (حصة الأجراء في الثروة) والأرباح (حصة رأس المال)  ومجموع الأداءات (حصة الدولة)، حسب معادلة حسابية (identité comptable). أيْ انّ المجموع يجب ان يكون مساويا لـ 100 %، وهذا يعني انه كلما ارتفعت (أو تقلصت) حصة طرف ما إلا و تقلصت (أو ارتفعت ) وجوبا حصة طرف أخر. لذلك عندما تدفع الحكومة (بأمر من صندوق النقد) نحو التقليص من نسبة كتلة الاجور في الناتج المحلي الخام من 14% حاليا الى 10 % في 2020  فهذا ليس مجرد ضغط على النفقات بل تقليصا لمناب الموظفين والاجراء من الثروة الوطنية. في نفس الوقت تشير المعطيات الاحصائية الى تراجع متواصل لنسبة الموارد الذاتية للدولة في الناتج المحلي الخام ، أي لنصيبها في الثروة (لعدة اسباب : الاعفاءات الجبائية، التخفيض في المعاليم الديوانية، التهرب الضريبي….). وحتى تبقى المعادلة الحسابية قائمة، فإنّ تقلص مناب الاجراء وتقلص مناب الدولة يقابله وجوبا ارتفاع في حصة رأس المال من الثروة الوطنية. لذلك فان المسألة تتعدى مجرد الضغط على النفقات، بل هي في جوهرها تعميق للحيْف الطبقي والتوزيع غير العادل وتمكين لرأس المال (المحلي والاجنبي ) من الاستيلاء على جزء أكبر من الثروة.

لتحقيق هذا الهدف، يجب ان نفتح مجالات جديدة أمام رأس المال للاستثمار (أي للاستغلال)  عبر خلق الشروط الموضوعية لإقالة الدولة وخوصصة ما تبقى من المؤسسات العمومية والخدمات الاجتماعية.  ذلك انّ التقليص في حجم المشتغلين في الوظيفة العمومية  بالشكل الذي يرتئيه صندوق النقد  يعني بكل بساطة أن تتخلى الدولة عن البعض من وظائفها. طبعا لا يمكن للدولة أن تتخلى عن و وظيفتها الأمنية، أو بالأحرى القمعية، التي قد تزداد الحاجة إليها في الأيام القادمة ( لهذا وقع استثناء وزارتيْ الدفاع و الداخلية من تجميد الانتدابات). أما ما يمكن التفويت فيه فيخصّ الوظيفة الاقتصادية  (الشركات والمؤسسات العمومية)  والوظيفة الاجتماعية (الخدمات).  ولئن كان مسار الخوصصة الذي انطلق منذ 1986 (برنامج الإصلاح الهيكلي) قد شمل العديد من المؤسسات العمومية فإنّ صندوق النقد، وبتواطئ من حكومة العمالة، يسعى إلى تعميق هذا المسار وتوسيعه ليشمل حتى الخدمات الاجتماعية. ذلك أن التقليص في عدد المشتغلين سيمسّ الخدمات التي تقدمها “الوزارات التقنية”    (تأطير الفلاحين، التكوين المهني ، الإحاطة بالمنتجين الصغار)، وبشكل رئيسي وزارات الخدمات مثل التعليم والصحة والنقل والثقافة التي تشكو بطبيعتها من شغورات و نقص كبير في الإطارات. وهو ما سيدفع نحو مزيد تردّي هذه الخدمات كشرط لفتحها أمام الرأسمال الطفيلي والرأسمال العالمي الذي يعيش أزمة ضيق مجالات الاستثمار وانخفاض معدّلات الربح. فما يسعى إليه صندوق النقد هو تحديدا فتح مجالات جديدة أمام الرأسمال العالمي عبر سلعنة الخدمات التي مازالت بعض الدول تؤمّنها لمواطنيها.

إلا أنّ الرأسمال العالمي والكمبرادور الطفيلي المرتهن به لن يقبلا الاستثمار في هذه المجالات إلا بشرط ضمان الحدّ الأدنى من الربح عبر الضغط على كلفة الإنتاج. ويبدو ما جاء في “قانون الاستثمار” غير كافٍ لإشباع جشع رأس المال، وهنا يتنزّل الإجراء الثاني الخاص بتجميد الأجور، التي تمثل أحد أهم عناصر هذه الكلفة. ذلك أنّ صندوق النقد يعتبر أن أجور القطاع العام تشكل مرجعية لأجور القطاع الخاص (وهى مقاربة صحيحة).  هذا يعني أنه كل ما ارتفعت الأجور في القطاع العام إلا و ارتفعت بالضرورة الأجور في القطاع الخاص. أي، قياسا، إذا أردنا الضغط على الأجور في القطاع الخاص والمحافظة على مستوياتها المتدنية لا بد من تجميد الأجور في القطاع العام. وهذا لا يخدم طبعا إّلا مصلحة الشركات الرأسمالية الأجنبية التي تستثمر في القُطر و الرأسمال المحلي الطفيلي الذي يستثمر في إطار المناولة لحساب هذه الشركات. هذا بالاضافة إلى انّ اقالة الدولة والتقليص من قدرتها التشغيلية سيعمّق واقع البطالة و يخلق “جيشا احتياطيا” يتمكّن من خلاله راس المال من تحويل البطالة الى آلية للضغط المتواصل على الأجور.
ما يسعى إليه صندوق النقد، بتواطؤ من حكومة التحالف اليميني  هو تأبيد واقع تونس (كغيرها من أشباه المستعمرات) كخزان ليد عاملة رخيصة يقع استغلالها بشكل وحشي. على سبيل المثال تبلغ كلفة اليد العاملة في قطاع الصناعات المعملية في الساعة الواحدة 29 أورو في فرنسا،  33 أورو في ألمانيا، 10 أورو في البرتغال و32 دولار في الولايات المتحدة في حين أن هذه الكلفة لا تتجاوز  0،75 أورو في تونس (معطيات سنة 2012 ). لذلك فإن تجميد الأجور والانتدابات في الوظيفة العمومية يتعدّى إذن حدود تدهور المقدرة الشرائية للموظفين والأجراء وتراجع الطلب الداخلي. بل أن هذا الإجراء في جوهره يتنزل في مسار قديم متجدّد يهدف إلى تفكيك ما تبقى من النسيج الاقتصادي الوطني و إعادة هيكلته حسب ما تقتضيه مصالح الرأسمال العالمي و ضرب ما تبقى من المكاسب الاجتماعية و تحويل الدولة إلى مجرد جهاز بوليسي ومكتب لتجميع الضرائب لتسديد الديون المتصاعدة.
  • أيّ استثمار وبأيّة كلفة؟

ينطلق مشروع قانون المالية من فرضية انّ الحلّ لتجاوز الازمة الاقتصادية والاجتماعية يكمن في مزيد من الاستثمار. و لانّ الدولة مدعوّة للتراجع والانسحاب حسب ايديولوجيا التحالف الحاكم فانّ الدور يبقى موكولا رئيسيا للاستثمار الخاص. لذلك، ككلّ قوانين المالية السابقة تضمن مشروع قانون المالية لسنة 2018 جملة من الاجراءات التي تهدف الى ارساء جملة من الحوافز تحت شعار”تشجيع الاستثمار و التشغيل “.

تحت عنوان تشجيع احداث المؤسسات ورد بالفصل 13 من قانون المالية ما يلي :  “بصرف النظر عن أحكام الفصل 71 من مجلة الضريبة على دخل الأشخاص الطبيعيين والضريبة على الشركات، تنتفع المؤسسات المُحدَثة والمتحصّلة على شهادة إيداع تصريح بالاستثمار لدى المصالح المعنية بقطاع النشاط خلال سنتيْ 2018  و 2019  من غير تلك الناشطة في القطاع المالي وقطاعات الطاقة، باستثناء الطاقات المتجددة، والمناجم والبعث العقاري والاستهلاك على عين المكان والتجارة ومشغلي شبكات الا تّصال، بالإعفاء من الضريبة على الدخل أو من الضريبة على الشركات لمدة 3 سنوات ابتداء من تاريخ الدخول طور النشاط الفعلي.”   في نفس الاتجاه وتحت عنوان  تشجيع انتداب حاملي شهادات التعليم العالي يقترح الفصل 19 من نفس القانون أن  ” تنتفع المؤسسات الخاصة المنتصبة بمناطق التنمية الجهوية والناشطة في جميع القطاعات الاقتصادية التي تقوم بانتداب بصفة قارة طالبي شغل لأول مرة من حاملي الجنسية التونسية والمتحصلين على شهادة تعليم عالي أو مؤهل التقني السامي بتكفل الدولة بمساهمة الأعراف في النظام القانوني للضمان الاجتماعي بعنوان الأجور المدفوعة للأعوان المذكورين وذلك لمدّة ثلاث سنوات إبتداء من تاريخ الانتداب”.

من الواضح ان حكومة التحالف اليميني مازالت مصرّة على اعتماد نفس السياسات القديمة في دعم وتشجيع الاستثمار الخاص. هذه الآليات التي تعود الى قانون افريل 1972، والتي تعتمد أساسا على الحوافز والمنح المالية و الاعفاءات الجبائية، رغم أنّها اثبتت فشلها في خلق استثمار خاص جدي قادر على انتاج الثروة وخلق مواطن الشغل. حسب معطيات وزارة التنمية والاستثمار والتعاون الدولي[ix] بلغت الكلفة الجملية للحوافز الجبائية و المالية بين 2007 و 2014 أكثر من 11 مليار دينار، أي بمعدل سنوي يقارب 1،4 مليار دينار منها 320 مليون دينار( 23 %)  حوافز مالية  و 1080 مليون دينار (77 %) حوافز جبائية. في سنة 2015 ارتفع حجم الامتيازات الجملية حوالي 2350 مليون دينار. وقد مثّلت جملة الحوافز للفترة 2007-2014 حوالي 8،3 % من الموارد الجبائية  و 5،5 % من مجمل ميزانية الدولة وأكثر من 2 % من الناتج المحلي الخام وارتفعت نسبة التحفيز (أي حجم الامتيازات مقارنة بالحجم الجملي للاستثمار الخاص ) 42،5 %، أي انّ أكثر من 40 % ممّا يُعتبر استثمار خاص هو في الحقيقية مُمَوَّل على حساب ميزانية الدولة.

رغم كل هذه الامتيازات وما انجرّ عنها من كلفة لميزانية الدولة فانّ النتائج كانت هزيلة. ذلك انّ نسبة الاستثمار الخاص في الاستثمار الجملي لم تتجاوز 60 %. و اذا ما اخذنا بعين الاعتبار استثمار العائلات في السكن (8،3 % من مجموع الاستثمار) ونسبة التحفيز فان النسبة الحقيقية للاستثمار الخاص لا تتجاوز في الواقع 30 % من الاستثمار الجملي. هذا الى جانب ان 10 % من المؤسسات (في اغلبها اجنبية) احتكرت اكثر من 90 % من الامتيازات. اما بخصوص التشغيل فان مساهمة الاستثمارات المنتفعة بالامتيازات لم تتخطّ 2 % من مجمل مواطن الشغل المحدثة في الصناعة و الخدمات، وارتفعت كلفة موطن الشغل الواحد الى أكثر من 30.000 دينار من الامتيازات فقط (دون اعتبار عناصر الكلفة الاخرى).  بالإضافة الى ان مثل هذه الالية المعتمدة على المنح المالية و الاعفاءات الجبائية تدفع أكثر نحو الاستثمار الطفيلي و هو ما يفسر النزعة نحو تمركز الاستثمار الخاص على وجه الخصوص في قطاعات التجارة و البعث العقاري و بعض الخدمات. أخيرا، حسب ما جاء في دراسة للبنك العالمي فان 66 %  من المؤسسات المنتفعة بالحوافز تغلق أبوابها بعد انتهاء مدة الامتيازات. ويعود هذا الى سببين: الاول يتعلق بالطابع الطفيلي للعديد من الاستثمارات التي تحقق ارباحها فقط عن طريق الحوافز والاعفاءات الجبائية. اما الثاني فهو يتعلق بمؤسسات تغلق أبوابها لتعود الى نفس نشاطها بأسماء مغايرة حتى تتمكن من الانتفاع بالامتيازات لفترة أطول. وهو ما يعني ان هذه الامتيازات تحولت الى آلية للفساد والتلاعب بالمال العام.

كل هذه المؤاخذات وردت في وثيقة وزارة الاستثمار والتنمية والتعاون الدولي المذكورة أعلاه في تقييمها لمجلة الاستثمار لسنة 1993. لهذا و لئن حافظ قانون الاستثمار 2016 على نفس الجوهر ونفس السياسات السابقة  فانّه اكتفى بالمنح المالية وألغى الاعفاءات الجبائية كآلية لتشجيع الاستثمار الخاص. لكن ،بالنسبة لحكومة التحالف اليميني،  يبدو ان مصالح اللوبيات أقوى من القانون، لهذا  جاء الفصل 13 من مشروع قانون المالية لسنة 2018  ليعيد آلية الاعفاءات الجبائية التي تمّ الغاءها بمقتضى قانون الاستثمار 2016.

تبدو المسألة أكثر خطورة بالنظر للفصل 19 من نفس مشروع القانون، الذي بالإضافة الى الاعفاءات الجبائية  يمكّن المؤسسات الخاصة، مهما كان نشاطها، من الانتفاع بتكفّل الدولة بمساهمة الأعراف في النظام القانوني للضمان الاجتماعي تحت غطاء التنمية الجهوية وتشغيل حاملي شهادات التعليم العالي. ففي الوقت الذي تشكو فيه الصناديق الاجتماعية من عجز متفاقم، ويفرض فيه قانون المالية اتاوة اضافية على الموظفين والاجراء وبعض المؤسسات لتمويل هذه الصناديق، يقرّ نفس القانون اعفاءً من دفع المساهمات الاجتماعية لمؤسسات أخرى. أما الاهم و الاخطر فان هذه الامتيازات موجهة الى كل المؤسسات الخاصة مهما كان مجال نشاطها. اذ يمكن لهذه المؤسسات ان تنتصب مثلا في قطاع التجارة (وهو ما يفسر الطفرة الاخيرة للفضاءات التجارية الكبرى التي تتكدس فيها البضائع المستوردة)  أو الخدمات الاجتماعية كالتعليم والصحة. وهو ليس إلا مقدمة لخوصصة هذه الخدمات و تحويلها الى مجالات لتحقيق الربح السهل و السريع . دون ان ننسى ان الامتيازات تمنح على حساب موارد الميزانية أي على حساب دافعي الضرائب وهو ما يشكل ابشع مظاهر الحيف الجبائي.  ففي الوقت الذي تتحجج فيه حكومة التحالف اليميني بقلة الامكانيات كل ما تعلق الامر بتحسين وضعية الخدمات الاجتماعية خاصة في المناطق الداخلية المهمشة ، تمنح فيه الامتيازات المالية والجبائية للاستثمار الخاص في هذه الخدمات وتمكّن بذلك لوبيات الاستثمار الطفيلي من الاثراء على حساب دافعي الضرائب.
  • العجز التجاري: بين مصالح لوبيات التوريد والتصدير وضغوطات الاتحاد الاوروبي

حسب اخر نشرية احصائية للمعهد الوطني للإحصاء بلغ عجز الميزان التجاري للعشر اشهر الاولى من سنة 2017 (الى موفى اكتوبر) ما قيمته 17،4 مليار دينار و بلغت نسبة تغطية الواردات بالصادرات 57 %.  إلا ان هذه المعطيات لا تخلو من المغالطات التي ترتقي الى مستوى التدليس. ذلك ان المبادلات التجارية (صادرات وواردات) تنقسم الى نظامين :  النظام العامّ  والنظام غير المقيم.  النظام غير المقيم يخصّ ما تجلبه الشركات الاجنبية من مواد اولية و قطع مجزّأة  لتركيبه في تونس (في اطار المناولة) لتعيده بعد التجميع الى الشركة الأمّ. فهي اذن مبادلات داخل فروع الشركة الواحدة ولا يمكن احتسابها (لا توريدا و لا تصديرا) كمبادلات تجارية لتونس مع بلدان أخرى.  لذلك فان احتساب المبادلات التجارية يجب ان يقتصر فقط على النظام العام.

باعتبار هذا المعطى فانّ  العجز التجاري الحقيقي  بلغ ما قيمته 21 مليار دينار للعشر اشهر الاولى من سنة 2017 ( اكثر من العجز الجملي لكامل سنة 2016). وتكون بذلك نسبة تغطية الواردات بالصادرات في حدود 24 %.  و يتوزّع هذا العجز التجاري بنسبة 30 % مع الاتحاد الاوروبي (حوالي 6،5 مليار دينار)، 3،8 % مع الصين، 1،5 %  مع روسيا و 1،4 %  مع تركيا.  أمّا الباقي فيتوزع بنسب صغيرة بين مجموعة من البلدان العربية والافريقية و الاسيوية و الامريكية.

ومن الغريب انّ البنك المركزي اصدر منشورا سنة 2015 يؤكد فيه على ضرورة الاقتصار على النظام العام فقط في احتساب المبادلات و العجز التجاري. ولكن لا المعهد الوطني للاحصاء ولا البنك المركزي نفسه التزما بما جاء في هذا المنشور. وهو ما يؤكّد ان التحالف الحاكم ما يزال يعتمد نفس أسلوب المغالطات و التلاعب بالأرقام للتغطية على فشل سياساته، وخاصة للتعتيم على الانعكاسات السلبية لاتفاق الشراكة مع الاتحاد الاوروبي الذي ساهم بشكل رئيسي في تفاقم العجز التجاري.

رغم هذه المغالطات فان العجز التجاري بلغ  حدًا لا يمكن تجاهله.  ولذا كان ضروريا أن يكون التقليص في هذا العجز احد الاهداف الرئيسية المُعلَنة في مشروعيْ قانون المالية وميزانية الدولة لسنة 2018. وحسب تقديرات مشروع الميزانية فانّ واردات السلع ستتطور بنسبة 8،1 % سنة 2018 في حين أن الصادرات ستتطور بنسبة 9،7 %،  وهو ما سيمكن من الضغط على عجز الميزان التجاري و ذلك بفضل جملة من الاجراءات تهدف أساسا الى “ترشيد التوريد” و “تشجيع التصدير”.

في باب ترشيد التوريد يقترح قانون المالية  الترفيع في المعاليم الديوانية الموظّفة على بعض المنتجات والمواد المورّدة (الفصل 42) الى جانب الترفيع في نسبة التسبقة المستوجبة بعنوان توريد مواد الاستهلاك (الفصل 43). الا ان هذه الاجراءات، كما سيتبين لنا، لا يمكن ان تؤدي الى ضغط فعلي على الواردات و بالتالي على عجز الميزان التجاري.

يقترح الفصل 42 من مشروع قانون المالية  ترفيعا في المعاليم الديوانية على الواردات من 0 الى 15 %  بالنسبة لبعض المواد و من 0 الى 36 %  بالنسبة لمواد أخرى. إلا ان الحجم الذي بلغته الواردات و مستوى العجز التجاري لا يمكن مقاومته بالاعتماد فقط على آلية المعاليم الديوانية.  خاصة وأن النسب المعتمدة (15 % و 36 %)  تبدو ضعيفة جدا (لحماية بعض المنتوجات يعتمد الاتحاد الاوروبي على معاليم ديوانية تتجاوز في بعض الاحيان 300 %)،  ممّا يسهل على الموردين ادراجها في شكل زيادة في الاسعار عند البيع. أي حتى وان سلمّنا بوجود مفعول ما لهذا الاجراء  فانّخ يبقى محدودا جدا  ولا يمكن ان يساهم بشكل جدي في الضغط على الواردات.

تبدو الصورة أكثر وضوحا اذا ما تفحصنا قائمة المواد المعنية بالترفيع في المعاليم الديوانية عند التوريد. جزء أول من هذه المواد مثل الطباشير و أقلام الرصاص و اقلام التلوين و الصلصال و الاقلام اللبدية و مواد التلوين المدرسي والخ. هي مواد هامشية وليس لها وزن يذكر في حجم الواردات. وبالتالي فان الترفيع في المعاليم الديوانية الى 36 % لن يغيّر من الامر شيئا.  أمّا ما يدفع للاستغراب أكثر فهو الترفيع في المعاليم الديوانية الى 15 % على مواد مثل الطائرات والاسلحة و الذخيرة و الدبابات. هذا يجعلنا أمام ثلاث فرضيات : اولها ان هذه المواد يقع توريدها من طرف الخواص، الفرضية الثانية اننا نمتلك في تونس (بدون ان نعلم) قطاعا لصناعة الطائرات و الدبابات و الاسلحة و نسعى الى حمايته من المنافسة الاجنبية اما الفرضية الثالثة ان حكومتنا مؤلفة من جملة من المختلّين، إذ تقرّ الحكومة معاليم ديوانية على وارداتها الخاصّة. في الواقع مثل هذه المواد التي تختص الدولة بتوريدها خارجة عن المنطق الاقتصادي و العجز التجاري و يمكن توريدها في بعض الحالات (الحرب او أي تهديد للامن القومي) مهما كان حجم العجز التجاري. من الواضح اذن ان هذا الاجراء ليس إلا مسرحيّة سخيفة  تقدمها حكومة التحالف اليميني للهروب من الحلول الحقيقية.  وهو في تناقض تام مع جملة الامتيازات و الحوافز التي تُمنح تحت غطاء الاستثمار والتشغيل لإنشاء فضاءات تجارية تتكدس فيها البضائع الموردة. بالاضافة الى ان هذا الترفيع لا يخص إلا  المواد الموردة من بلدان لا تربطها بتونس اتفاقيات تبادل حرّ، أي بلدان اخرى غير الاتحاد الاوروبي و تركيا. من هنا يمكن ان نتبين ان الترفيع في المعاليم الديوانية لم يكن هدفه الضغط على التوريد وانما توجيهه نحو صديقىْ النداء و النهضة : الاتحاد الاوروبي وتركيا.

اما الاجراء الثاني فيتمثل، حسب الفصل 43 من مشروع قانون المالية،  في الترفيع في نسبة التسبقة المستوجبة بعنوان توريد مواد الاستهلاك  من 10 %  الى 15 %.  هذه التسبقة هي في الحقيقة جزء من الضريبة المستحقة بعنوان الاداء على ارباح الشركات تسدّده الشركات الموردة مسبقا ويخصم طبعا من مجمل الاداء المستوجب عندما تقدم هذه الشركات الى المصالح المعنية التصريح السنوي عن أرباحها. ما جاء به الفصل 43 هو الترفيع في هذه النسبة من 10 الى 15 % بالنسبة لتوريد المواد الاستهلاكية. هذا الاجراء بدوره عديم الجدوى حيث انه لا يؤدي الى زيادة في كلفة التوريد ولا يحدّ بالتالي من حجمه كما ان شركات التوريد لها امكانية الاقتراض لدى البنوك لتغطية هذه التسبقة (كان على البنك المركزي ان يمنع نهائيا قروض تمويل التوريد). ما يمكن أن يؤدي اليه مثل هذا الاجراء هو ازاحة الموردين الصغار والدفع نحو احتكار التوريد بيد قلّة من الموردين الذين يعتمدون على موارد مالية هامة وسهولة في الحصول على التمويل البنكي.

في الواقع، ان اشكالية التوريد العشوائي تتعدى مجرد انعكاسه السلبي على الميزان التجاري، إذ تشكّل آلية لتدمير و تفكيك ما تبقى من النسيج الصناعي و الاقتصادي عموما. للتذكير، نتيجة لتحرير المبادلات في اطار اتفاق الشراكة مع الاتحاد الاوروبي، أدّى اغراق الاسواق بالمنتوجات الاوروبية الى اندثار ما يقارب 50 % من المؤسسات الصناعية التونسية الخاصة (خسارة ما يقارب 30000 موطن شغل). كذلك منذ 2011  الى اليوم اغلقت حوالي 300 مؤسسة في قطاع النسيج و 40 مؤسسة في قطاع الجلود والاحذية ابوابها (خسارة ما يقارب 70000 موطن شغل) لعدم قدرتها على منافسة المنتوجات الموردة.
لذلك فان التعاطي مع التوريد يجب ان يتجاوز المنطق الحسابي  الذي يقف عند حدود تأمين الموازنات. بل يجب ان يكون على اساس حماية النسيج الاقتصادي الوطني و دعم قدرته التشغلية. من هذا المنطلق لا يوجد سوى حل واحد: التوقيف الفوري لواردات بعض المواد غير الضرورية أو التي لها نظير في تونس. هذا الاجراء ممكن وتسمح به الاتفاقيات الدولية التي تعطي للدول امكانية الاعتماد على “الاجراءات الحمائية” (les clauses de sauvegarde )  في حالات العجز التجاري الحاد أو لحماية الانشطة المحلية. هذا الاجراء لا تريد حكومة التحالف اليميني اللجوء اليه حفاظا على مصالح لوبيات التوريد ورضوخا لضغوطات الاتحاد الاوروبي الذي انطلقت معه المفاوضات حول “التبادل الحر الشامل و المعمق” دون الرجوع الى المؤسسة التشريعية ودون أي تقييم جدي لأثار الاتفاقيات السابقة.

تحت نفس العنوان “الحد من العجز التجاري” يقترح مشروع قانون المالية جملة من الاجراءات تهدف عبر “دعم القدرة التنافسية للمؤسسات” الى “تشجيع التصدير”.  ومن المرتقب حسب التقديرات ان تمكّن هذه الاجراءات من تطور صادرات السلع بنسبة 9،7 %  سنة 2018 مقابل  8،1 %  منتظرة لسنة 2017.  الّا انّ هذه التقديرات تبدو بعيدة عن الواقع، ذلك ان تطور الصادرات مرتبط بتطور الطلب على البضائع التونسية  المرتبط بدوره بنسبة النمو خاصة في الاتحاد الاوروبي، الذي يمثل الشريك التجاري الاول و السوق الرئيسية للصادرات التونسية. الا ان المعطيات الاحصائية (التي اوردها تقرير الميزانية نفسه) تشير الى تباطؤ النمو في البلدان الاوروبية في سنة 2018. وهو ما يعني ان امكانية تطور الصادرات بالنسب المرتقبة تبدو محدودة جدا، ان لم تكن مستحيلة.

نسبة النمو في بعض البلدان الاوروبية  (%)
2018 2017
1،8 1،6 فرنسا
1،8 2 المانيا
1،1 1،5 ايطاليا
2،5 3،1 اسبانيا
1،9 2،1 الاتحاد الاوروبي
المصدر: تقرير حول مشروع ميزانية الدولة لسنة 2018  صفحة 8

 

حتى و ان سلمنا بامكانية تطور الصادرات بالنسب المرتقبة،  فيجب ان لا ننسى ان حوالي 65 % من الصادرات التونسية تدخل في اطار “النظام الغير مقيم ” (off shore)  وهي كما أشرنا لا يمكن ان نعتبرها صادرات بالمعنى الحقيقي للكلمة اذ لا تنجر عنها اية عائدات مالية و لا تساهم بالتالي في تحسين وضع الميزان التجاري. لذلك، فان ما يقترحه مشروع قانون المالية تحت عنوان “تشجيع التصدير” ليس في واقع الامر إلا منح امتيازات اضافية لما يسمى بـ “الشركات المصدرة كليا” أي للرأسمال العالمي  و الكمبرادور الطفيلي المرتهن به و المتمركز في حلقات المناولة لحساب الشركات العالمية.

في الواقع، ليست الاجراءات الواردة في مشروع قانون المالية إلا تواصلا للخيارات السابقة او ما يسمى بـ “النزعة التصديرية” التي بدأت تتضح ملامحها منذ سبعينات القرن الماضي و تحديدا مع قانون أفريل 1972. هذه الخيارات التي تعتبر انه،  نظرا لضعف الطلب الداخلي ، يصبح التصدير الحلّ الوحيد والأمثل لدفع النمو الاقتصادي و خلقمواطن شغل و المحافظة على سلامة الموازنات التجارية. لذلك أقرّ قانون افريل 1972 جملة من الحوافز والامتيازات لصالح الشركات المصدرة. هذه الحوافز والامتيازات تعمقت مع مجلة تشجيع الاستثمار 1993، لتصبح أكثر سخاء مع قانون الاستثمار 2016 .

اولا تجدر الاشارة الى انّ “ضعف الطلب الداخلي” ليس قدرا الاهيا ولا ايضا، كما يروج البعض، انعكاسا للحجم الديموغرافي لتونس (بلد صغير كما يقال). بل هو نتيجة مباشرة للخيارات الاقتصادية والاجتماعية، وتحديدا لشكل الانخراط في الاقتصاد العالمي القائم على الأجور المتدنيّة. ثانيا، ما اثبتته التجربة ان هذا القطاع التصديري لم يكن له أي دور يذكر لا في دفع الاقتصاد ولا في خلق مواطن شغل. بل كان مجرد قناة لاستغلال اليد العاملة (الاجور الضعيفة) ونهب ثروات البلاد.

لكن ما يعنينا هنا هو، ان سياسة دعم التصدير،  أي “مزيد من التصدير”،  ليست في النهاية إلا مزيدا من التوريد و مزيدا من العجز التجاري. ذلك ان ما يردّده اشباه الاقتصاديين وما ورد في قانون المالية يتناسى امرين: الامر الاول هو ما أشرنا اليه سابقا من ان الجزء الاكبر من الصادرات التونسية يدخل في اطار “النظام غير المقيم”، اي ان عائداتها لا تعود الى تونس، و بالتالي ليس له أي تأثير على الميزان التجاري. اما الامر الثاني والأهم : اذا كان التصدير في البلدان المتقدمة هو تصدير لفوائض (اي بعد تلبية الطلب الداخلي و حالة الاشباع التي تعرفها أسواقها) فانّ التصدير في تونس كما في غيرها من الاقتصاديات الهشة هو نتيجة لضعف الطلب الداخلي ومحكوم بمنطق اللهث وراء العملة الصعبة لتسديد الديون و تمويل التوريد. لذلك فان النزعة التصديرية تعني توجيه النسيج الاقتصادي و القدرات الانتاجية نحو تلبية الطلب الخارجي (أي نحو الانتاج للسوق العالمية  على حساب  الانتاج للسوق المحلية و تلبية الطلب الداخلي). و لتلبية هذا الطلب الداخلي يصبح اللجوء المتزايد الى التوريد ضروريا.  من هذا المنطلق فان مزيدا من التصدير لا يعني سوى مزيدًا من التوريد ومزيدًا من العجز التجاري. هذا بالإضافة الى ان  واقع الارتهان بالتقسيم الدولي للعمل يحصر صادراتنا  في مواد استخراجية خام وبعض المواد الضعيفة التحويل، اي اننا نصدّر منتوجات ذات قيمة مضافة ضعيفة. في المقابل ما نستورده يهم اساسا معدات و آلات ومواد استهلاكية مصنعة، اي منتوجات ذات قيمة اضافية مرتفعة. لذلك يتخذ العجز التجاري طابعا هيكليا و لا تساهم سياسات “تشجيع التصدير” الا في مزيد تعميقه.

لمزيد من التوضيح،  نورد مثال زيت الزيتون الذي “اكتشفنا” فجأة انه خارج “عاداتنا و تقاليدنا الغذائية”.  اولا تجدر الاشارة الى ان الاتحاد الاوروبي يشترط على تونس تصدير 80% من زيت الزيتون دون تحويل (صبّة). و ذلك تحديدا لتشغيل وحدات التحويل و التعليب المنتشرة في ايطاليا و اسبانيا التي لا يمكن ان تعمل على مدار السنة بالاعتماد على انتاجها المحلي  فقط. وهو ما يمكن هذه الوحدات (في ايطاليا و اسبانيا) من الاستيلاء على الجزء الاهم من القيمة المضافة التي تنتج في مسار التحويل ( 70 % تقريبا من القيمة المضافة في قطاع الزيت تنتج في حلقة التحويل و التعليب).  يعني، مقابل فتات من العملة الصعبة، نخسر سنويا جراء تصدير زيت الزيتون الالاف من مواطن الشغل وبعض المليارات من القيمة المضافة. فقط  حتى لا تخسر اسبانيا و ايطاليا مواطن شغل وحتى تحافظ لوبيات التصدير على مرابيحها وايضا على احد اهم القنوات لتهريب الاموال. أما الاهم فان النزعة نحو تصدير زيت الزيتون (التي انطلقت منذ سنة 1969) تدفع باستمرار نحو ارتفاع اسعار الاستهلاك المحلي. ممّا جعل من مستوى الاستهلاك العائلي لزيت الزيتون في تونس الاضعف في كامل منطقة المتوسط على الرغم من ان تونس هي ثاني اكبر منتج في العالم، وان انتاجنا من الزيت يوازي 3 مرات حجم الاستهلاك المطلوب.  في نفس الوقت، و لتغطية الطلب الداخلي، ترتفع واردات  الزيوت النباتية (الاقل جودة). ايّ ان ما نجنيه من عملة صعبة من ناحية نخسره تقريبا من ناحية أخرى. على سبيل المثال بلغت صادرات زيت الزيتون 67،9 الف طن سنة 2017  أي ما قيمته 641 مليون دينار او 262 مليون دولار (ما يقرب 9،4 دينار أو 3،8 دولار للتر الواحد) . في المقابل ارتفعت واردات الزيوت النباتية الى 271،4  ألف طن أي ما قدره 562،1 مليون دينار . يبدو الفارق في ظاهره ايجابيا (حوالي 80 مليون دينار) و لكن اذا اخذنا بعين الاعتبار الدعم المرصود لتوريد الزيوت النباتية (120 مليون دينار) و لتصدير زيت الزيتون (حوالي 80 مليون دينار) تصبح العملية خاسرة.

  • تضامن اجتماعي  أم تغطية على الفساد ومعاقبة للملتزمين بدفع المساهمات الاجتماعية؟

يقترح مشروع قانون المالية لسنة 2018 إحداث “مساهمة اجتماعية تضامنية” يخصّص مردودها لتمويل الصناديق الاجتماعية تستوجب على الاشخاص الطبيعيين وعلى المؤسسات والشركات الخاضعة للضريبة على الشركات أو المعفاة منها  وذلك بتطبيق نقطة اضافية (1 %) على الاداء على دخل الاشخاص الطبيعيين و أرباح الشركات (الفصل 55). ومن المنتظر ان يكون مردود هذا الاجراء في حدود 200 مليون دينار ترصد لفائدة الصندوق الوطني للتقاعد و الحيطة الاجتماعية (CNRPS). للتذكير، سبق ان رصدت ميزانية 2017 مبلغ 500 مليون دينار للصندوق الوطني للتقاعد و الحيطة الاجتماعية بعد أن رصدت له ميزانية 2016 منحة بـ 300 مليون دينار. الا ان هذه المنح المتكررة لم تغير شيئا من واقع هذا الصندوق و لم تساهم في تجاوز ازمة الصناديق الاجتماعية التي يبدو انها تعيش حالة افلاس غير معلن.

تعيش الصناديق الاجتماعية منذ عدة سنوات ازمة مالية خانقة. حسب معطيات وزارة الشؤون الاجتماعية بلغ عجز هذه الصناديق 938 مليون دينار سنة 2016 ليرتفع الى حدود 1326 مليون دينار سنة 2017 (الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي 789 مليون دينار ،  الصندوق الوطني للتقاعد و الحيطة الاجتماعية 409 مليون دينار ، الصندوق الوطني للتأمين على المرض 128 مليون دينار). في الواقع تعود جذور هذه الازمة الى بداية تسعينات القرن الماضي حيث أقرت الحكومة سنة 1994 الترفيع في نسبة المساهمة بعنوان أنظمة التقاعد في القطاع العمومي لتصبح  2،2 نقطة (1،2 نقطة على كاهل المؤجر ونقطة على كاهل الأجير)، ثم الترفيع بداية من 2007 في نسب المساهمات بعنوان مختلف أنظمة التقاعد بثلاث نقاط إضافية (1.8 نقطة على كاهل المشغل و1.2 نقطة على كاهل العون) وبداية من جويلية 2011 تم الترفيع مجددا بنقطة إضافية على كاهل المشغل.  إلا ان هذه الحلول الترقيعية لم تكن كافية لتجاوز ازمة الصناديق الاجتماعية التي  تبقى في جوهرها نتيجة مباشرة للخيارات الاقتصادية و الاجتماعية و تحديدا لتعمق التوجه الليبرالي مع دخول برنامج الاصلاح الهيكلي حيز التنفيذ.

تشتغل منظومة التقاعد في تونس  وفق “النظام التوزيعي” ، الذي يقوم على مبدأ تمويل جرايات المتقاعدين اعتمادا على  مساهمة الناشطين . هذا النظام التوزيعي، رغم بعده التضامني الايجابي ، يبقى شديد التأثر بطرق التصرف في موارد الصناديق  والقدرة التشغيلية للاقتصاد وهيكلته والتحولات الديموغرافية للمجتمع. كما ان هذا  النظام التوزيعي  لا يحافظ على توازناته ألا متى كانت  مساهمات الناشطين  مساوية على الاقل  للمستحقات (جرايات التقاعد). من هذا المنطلق فان المؤشر الديموغرافي (عدد المساهمين / عدد المنتفعين ) يعتبر من أحد أهم المؤشرات المعتمدة لرصد تطور وضعية الصناديق الاجتماعية. و تتفق العديد من الدراسات على ان هذا المؤشر يجب ان يكون في مستوى 4 كحد ادنى حتى تحافظ الصناديق الاجتماعية على موازنات مالية سليمة.

يبلغ عدد المنخرطين بالصندوق الوطني للتقاعد و الحيطة الاجتماعية حوالي 750700 منخرط  في حين يبلغ عدد المنتفعين بجرايات حوالي 338390 منتفع وهو ما يعطي مؤشرا ديموغرافيا بـ 2،1  أي مساهمين اثنين لكل منتفع بجراية. هذا  المؤشر الذي كان في حدود 7 حتى بداية سنوات 1980 بدأ يتراجع  ليستقر في  مستوى 5،3 سنة 1990  ثم 3،9 سنة 2000 لينزل الى حوالي 2  حاليا  وهو ما يبرر وضعية العجز المتفاقم لهذا الصندوق.

حسب الخطاب الرسمي و تحاليل بعض “الخبراء” يرتبط هذا التراجع اساسا بالتحولات الديموغرافية (تراجع مؤشر الخصوبة، ارتفاع نسبة الشيخوخة، ارتفاع مؤمل الحياة عند الولادة) التي أدت الى ارتفاع متسارع لعدد المتقاعدين. الا ان هذا الخطاب و ان كان يكشف جزءا من الحقيقة فهو يخفي (عمدا) الجزء الاخر المرتبط بالخيارات الاقتصادية و الاجتماعية. فاذا كان تراجع المؤشر الديموغرافي لصندوق التقاعد و الحيطة الاجتماعية يرتبط بارتفاع عدد المتقاعدين فهو ايضا نتيجة للتراجع النسبي لعدد المنخرطين (المساهمين) المرتبط بدوره بتراجع القدرة التشغيلية للقطاع العام. لذلك فان ازمة الصندوق الوطني للتقاعد و الحيطة الاجتماعية بدأت تبرز بوادرها منذ سنة 1990 اي اربع سنوات بعد دخول برنامج الاصلاح الهيكلي حيز التنفيذ.

شكل  تقليص دور الدولة و الضغط على حجم المشتغلين في القطاع العام  احد الركائز الاساسية لبرنامج الاصلاح الهيكلي المفروض من طرف المؤسسات المالية العالمية (صندوق النقد و البنك العالمي) و ذلك عبر التقليص في الانتدابات في الوظيفة العمومية و التفويت في العديد من المؤسسات العمومية. كنتيجة مباشرة تراجعت القدرة التشغيلية للدولة وهو ما يفسر النسق البطيء لتطور عدد المنخرطين في صندوق التقاعد و الحيطة الاجتماعية (2،5 % كمعدل سنوي) مقارنة بعدد المتقاعدين المنتفعين بجرايات (5 % كمعدل سنوي). من ناحية أخرى ارتفع عدد المتقاعدين لا فقط نتيجة للتحولات الديموغرافية (كما يسوق له الخطاب الرسمي) بل نتيجة لبرامج التسريح الطوعي للموظفين و برامج اعادة هيكلة المؤسسات العمومية (قبل التفويت فيها) و ما صحبها من تسريح لآلاف العمال. و تشير معطيات الصندوق الوطني للتقاعد و الحيطة الاجتماعية ان حوالي 60 % من جملة المتقاعدين يدخلون في اطار التقاعد المبكر.

هذا التوجه كان وراء اختلال التوازنات المالية للصندوق الوطني للتقاعد و الحيطة الاجتماعية الذي استنفذ كامل مدخراته ليدخل بداية من 2005 في حالة عجز دائم. هذه الازمة ساهمت في تعميقها عوامل أخرى اولها الانظمة الخصوصية المسكوت عنها و التي تشمل الوزراء (القانون 31 مؤرخ في 17 مارس 1983 ) و الولاة (القانون 16 مؤرخ في 17 مارس 1988) و النواب (القانون 16 مؤرخ في 8 مارس 1985 ) والمستشارون (القانون 54 مؤرخ في 18 جويلية 2005 ). هذه الانظمة، السارية المفعول الى حد اليوم، باعتمادها معايير “استثنائية” في شروط و احتساب جرايات التقاعد تؤمن مساهمات متواضعة مقابل جرايات تقاعد سخية جدا للمنتفعين بها.

العامل الثاني الذي ساهم في تعميق أزمة صندوق التقاعد و الحيطة الاجتماعية هو تدخله في مجالات لا علاقة لها بدوره الرئيسي، كالقروض الجامعية  و مساعدة العائلات المعوزة و صندوق ضمان النفقة وجراية الطلاق، نتيجة لتخلي الدولة عن دورها الاجتماعي. وبذلك تحول الصندوق من مؤسسة للضمان الاجتماعي الى مؤسسة للتضامن الاجتماعي. و بما ان هذا التضامن  ليس الا تضامنا بين الفقراء فهو لا يمكن إلا ان ينتج عجزا ماليا متفاقما.

أخيرا تجدر الاشارة الى ان العديد من الوزارات و المؤسسات العمومية لا تلتزم بتسديد مساهماتها الاجتماعية و قد بلغت ديون الصندوق الوطني للتقاعد و الحيطة الاجتماعية المتخلدة بذمة الدولة و المؤسسات العمومية 681 مليون دينار سنة 2016  (260 مليون دينار سنة 2014) بالإضافة الى ان الصندوق تحمل الأعباء المالية للمنتفعين بالعفو التشريعي العام.

اما بالنسبة للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي (CNSS) فقد تراجع المؤشر الديموغرافي من 7،37  سنة 1990 الى 4،16 سنة 2000 و 3،85 سنة 2015. و قد تراجع هذا المؤشر يشكل ملحوظ  في نظام العملة الغير فلاحيين (60 % من مجموع المنخرطين و 71 % من مجموع المنتفعين بجرايات) من 7،3  سنة 1990 الى 4،28  سنة 2000 و 2،82 سنة 2015 . يعود هذا التراجع أساسا الى تراجع الاستثمار في القطاعات المنتجة و نزعة الكمبرادور الطفيلي  الى التوجه أكثر نحو بعض القطاعات الهامشية ذات القدرة التشغيلية الضعيفة هذه النزعة التي تدعمت أكثر مع ما منحته مجلة الاستثمار من امتيازات و ما افرزته سياسة تحرير المبادلات من منافسة لم يكن الرأسمال المحلي قادرا على مواجهتها. هذا الى جانب انتشار انماط التشغيل الهش و المناولة التي بقيت في اغلبها خارج منظومة الضمان الاجتماعي.

عموما، يعتبر المؤشر الديمغرافي الجملي (حوالي 4) للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي مقبولا مما يجعله نظريا متوازنا ماليا  إلا ان الواقع مغاير تماما ذلك ان الموازنات المالية للصندوق بدأت تختل بداية من 2002  ليسجل عجزا بحوالي 68 مليون دينار سنة 2006  ليتفاقم  هذا العجز الى حدود 470 مليون دينار سنة 2016. و يعود هذا العجز أساسا الى الديون المتراكمة و المتخلدة بذمة العديد من الاطراف.  في موفى سنة 2016 بلغت الديون المستحقة لصندوق الضمان الاجتماعي ما قيمته 4379 مليون دينار

جزء من هذه الديون متخلد بذمة الدولة و يبلغ حوالي 515 مليون دينار.  ذلك انه في اطار الامتيازات الممنوحة للكمبرادور الطفيلي و الرأسمال العالمي حسب ما جاء في مجلة تشجيع الاستثمار 1993 ، تتكفل الدولة تحت غطاء تشجيع الاستثمار بمساهمة الأعراف في النظام القانوني للضمان الاجتماعي لمدة خمس سنوات. لكن أمام تراكم التعهدات اصبحت الدولة عاجزة عن الإيفاء بها  وهو ما يبرر هذا الحجم المرتفع نسبيا لديون الدولة تجاه صندوق الضمان الاجتماعي. الغريب في الامر ان الحكومة  ما زالت مصرة على  مواصلة نفس التمشي حسب ما ورد في  الفصل 19 من مشروع قانون المالية  لسنة 2018 .

جزء ثاني من هذه الديون، يقدر بحوالي 2226 مليون دينار، متخلد بذمة مؤسسات خاصة من بينها 1400 مليون دينار متخلدة بذمة مؤسسات ناشطة (من بينها مؤسسات أجنبية) مع العلم ان هذه المؤسسات تقتطع المساهمات على اجرائها لكنها لا تقوم بتحويلها الى صندوق الضمان الاجتماعي. اما المتبقي فيخص ديون لدى مؤسسات متوقفة عن النشاط (منها التجمع المنحل بديون تبلغ 68 مليون دينار). هذا الى جانب تحمل الصندوق لكلفة “جرايات التقاعد قبل السن القانونية لأسباب اقتصادية” و إسناد إعانات الى عدد من الأجراء الذین أغلقت مؤسساتھم بصفة فجئیة على غرار ما وقع بالنسبة لمؤسسة “جال قروب” بمنزل بورقيبة  سنة 2013 و التي تشغل 3150 عون یتكلفون على الصندوق 450 ألف دینار شھریا.

اما العامل الثاني الذي ساهم ايضا في انخرام التوازنات المالية للصندوق فيتمثل في الفساد و التصاريح المغشوشة (sous-déclaration  ) في علاقة بحجم الاجور (15،6 % في المعدل) و عدد الأجراء (23،8 % في المعدل). و حسب تقديرات صندوق الضمان الاجتماعي يبلغ حجم الاجور الغير مصرح بها 2300 مليون دينار سنويا و هو ما يتسبب في حرمان الصندوق من مساهمات تقدر بحوالي 400 مليون دينار في السنة.

أخيرا،  حسب دراسة لمركز البحوث و الدراسات الاجتماعية[x] (CRES) يشغل القطاع الموازي في 2015 حوالي مليون و 92 ألف شخص  وهو ما يعني أن 32 %  من الناشطين لا يتمتعون بالتغطية الاجتماعية. هذه النسبة تقابلها خسارة 500 مليون دينار بعنوان مساهمات اجتماعية اي ما يعادل عجز صندوق الضمان الاجتماعي لنفس السنة.

من المؤكد ان اشكالية الصناديق الاجتماعية تستوجب دراسة اكثر عمقا و أكثر تفصيلا  و لكن من خلال ما تقدم يمكن ان نجزم ان عجز الصناديق الاجتماعية لا يمكن اختصاره في انعكاسات التحولات الديموغرافية بل مرتبط في جوهره بالخيارات الاقتصادية و الاجتماعية السائدة و التي ساهمت في تعميق واقع البطالة و تفشي الفساد و توسع دائرة الاقتصاد الموازي. لذلك فان تجاوز هذه الازمة ، بالإضافة الى مراجعة اليات احتساب المساهمات الاجتماعية  و  الجرايات ،  يمر ضرورة عبر توسيع دائرة التشغيل (الاستثمار المباشر للدولة و دفع الاستثمار الخاص نحو القطاعات المنتجة) و القطع مع الانظمة الخصوصية او الاستثنائية و الامتيازات الممنوحة للكمبرادور الطفيلي و الرأسمال العالمي (تكفل الدولة بمساهمة الاعراف) و المقاومة الجدية للتهرب و التصاريح المغشوشة و كل اشكال الفساد. اما ما ورد في الفصل 55 من مشروع قانون المالية لسنة 2018 بخصوص احداث “مساهمة اجتماعية تضامنية ”  أو ما تسوق له الحكومة من ضرورة الترفيع في سن التقاعد ( الى 62 أو 65 سنة) فهو يدخل في خانة الحلول الترقيعية و لا يمكن ان يساهم في تجاوز ازمة الصناديق الاجتماعية بل فقط  يعاقب المؤسسات الملتزمة بدفع مساهماتها الاجتماعية و يحمل العمال و الاجراء كلفة الخيارات الفاشلة و التواطؤ مع الفساد..

  • دعم المضاربة البنكية والعقارية تحت غطاء اجراءات اجتماعية.

حسب الفصل 58 من مشروع قانون المالية  “يحدث صندوق يسمّى « صندوق ضمان القروض السكنية لفائدة الفئات الاجتماعية من ذوي الدخل غير القار»  يخصّص لفائدته اعتماد على موارد ميزانية الدولة قدره 50 مليون دينار لضمان القروض السكنية المسندة من قبل البنوك للفئات الاجتماعية من ذوي الدخل غير القار، شريطة أن تكون الوضعية العقارية للعمليات الممولة في إطار منظومة الضمان مسوّاة وخاضعة للتراتيب الجاري بها العمل في مجال البناء والتعمير”.

و حسب ما جاء في شرح الاسباب يندرج هذا الإجراء ضمن  الإستراتيجية الجديدة للسكن للفترة 2016 – 2020   و يرمي إلى تلبية حاجيات تمويل الفئات من ذوي الدخل غير القار والغير منخرطة في منظومة الضمان الاجتماعي والتي تجد صعوبة في النفاذ إلى التمويل البنكي والحصول على قروض سكنية نظرا لممارستها لأنشطة غير منظمة  وعدم انتظام مداخيلها وذلك قصد تمكين هذه الشريحة من امتلاك مسكن وتشجيع البنوك على تمويلها.

من البديهي ان الفئات المعنية بهذا الاجراء لن تكون موضوعيا قادرة على تسديد القروض البنكية نظرا  “لممارستها لأنشطة غير منظمة و عدم انتظام مداخيلها ” وهو ما يعني ان الدولة هي من سيتكفل في نهاية الامر بتسديد  كل هذه القروض حسب الاعتماد المرصود أي 50 مليون دينار. لكن الأهم، ان الاعتماد المرصود، أي ما سينفق على حساب ميزانية الدولة  لن يغطي كلفة انجاز المساكن فقط بل أيضا ارباح الباعثين العقاريين و فوائد القروض البنكية. و اعتبارا لارتفاع الفوائد البنكية و هوامش ربح الباعثين العقاريين يمكن ان نفترض و بدون  مبالغة  ان الـ 50 مليون دينار التي ستنفقها الدولة تنقسم مثلا الى 25 م.د ككلفة لانجاز المساكن و 25 م.د هي ارباح الباعثين العقاريين و فوائد البنوك. أي بلغة أخرى ان الدولة ستنفق 50 م.د دينار لتمكين الفئة المعنية من مساكن لا تتجاوز كلفتها 25 م.د.

هنا يمكن ان نتساءل : لماذا لا تتكفل الدولة مباشرة بانجاز هذه المساكن لفائدة الفئات المعنية عبر شركتيها، الشركة الوطنية العقارية للبلاد التونسية (SNIT ) و شركة النهوض بالمساكن الاجتماعية (SPROLS) وهو ما يجعل النفقات في حدود كلفة انجاز المساكن لا غير؟

عرف قطاع البعث العقاري تضخما ملحوظا على اثر تحريره بداية من سنة 1990 و إقرار جملة من الامتيازات لصالح  الباعثين العقاريين الخواص قبل أن يقع إدراج القطاع ضمن قائمة القطاعات المنتفعة بمجلة الاستثمار لسنة 1993 . كما تم تشجيع البنوك على منح قروض السكن خاصة الموجهة لشراء مساكن منجزة من قبل الباعثين العقاريين و ذلك بهدف خلق قدرة شرائية وهمية قادرة على استيعاب ما يعرضه هؤلاء الباعثين حسب ما تقتضيه أسعار و نسب أرباح المضاربة. جملة هذه الإجراءات جعلت من قطاع السكن نشاطا ملائما للمضاربة و يبرز هذا خاصة في الارتفاع المتسارع و المشط للأسعار. حسب معطيات المعهد الوطني للإحصاء[xi]  ، ارتفع السعر المتوسط للشقق الجديدة بنسبة 238 %  بين 2000 و 2015. و اعتمادا على بعض المعطيات المتوفرة حول كلفة الانجاز و أسعار البيع يحقق الباعثون العقاريون نسب أرباح تتراوح  في المتوسط بين 40 %  و 166 %  (وتتجاوز في بعض الحالات 270 %) و هي نسب مرتفعة جدا لا تتحقق إلا في نشاطات المضاربة.

نتيجة للمضاربة يشهد القطاع منذ حوالي أربع سنوات أزمة برزت أساسا في تراكم عدد الشقق الغير مباعة التي تجاوزت حسب بعض المعطيات 40000 شقة سنة 2015 (24000 منها في تونس الكبرى)  و تعود هذه الأزمة من جهة إلى ارتفاع الأسعار نتيجة المضاربة، و من جهة أخرى إلى تآكل المقدرة الشرائية للفئات الوسطى إلى درجة أصبحت فيها حتى القروض البنكية عاجزة على تنشيطها.

كان من المفروض في مثل هذا الوضع محاربة المضاربة عبر إجراءات تضغط على أسعار المساكن لكن حكومة التحالف اليميني  لم يكن يعنيها سوى المحافظة على المستويات المرتفعة لأسعار المساكن و بالتالي المحافظة على الأرباح الهائلة التي تحققها لوبيات المضاربة  في قطاع البعث العقاري. لذلك اقر قانون المالية لسنة 2017 إحداث خط تمويل باعتماد قدره 250 م.د.  في إطار” برنامج المسكن الأوّل” الذي يهدف  توفير قرض ميسّر لتغطية التمويل الذاتي المطالب بها المنتفع قصد اقتناء مسكن أوّل منجز من قبل باعث عقاري.

لكن يبدو ان هذا الاجراء لم يكن كافيا لإشباع نهم المضاربين العقاريين خاصة أمام تدهور المقدرة الشرائية للفئات الوسطى و ضعف عدد المنتفعين من هذا البرنامج (260 منتفعا). هذا بالإضافة الى ان انتفاع المضاربين العقاريين من الاعتماد المرصود بميزانية الدولة يبقى مشروطا بإقبال الفئات المعنية على الاقتراض وهي مسألة محدودة جدا نظرا لان مستويات تداين الفئات الوسطى قد بلغت حدودها القصوى. لذلك كان لا بد من ايجاد طريقة اخرى لا تجعل المنتفعين بمثل هذا البرنامج تحت طائلة اجبارية تسديد القروض و ليست هذه الالية سوى “القروض المضمونة على موارد ميزانية الدولة”.  و لتبرير اللجوء الى هذه الالية لا بد من اعطائها “بعدا اجتماعيا” و لهذا وقع توجيهها الى “ذوي الدخل غير القار” .

في وثيقة  نشرها بتاريخ 25 سبتمبر 2017  قدم اتحاد الصناعة و التجارة جملة من المقترحات[xii] من بينها ان يقع بداية من 2018  ” تخصيص 50 % من موارد صندوق النهوض بالمساكن الاجتماعية (FOPROLOS) لتحسين السكن و ظروف الحياة في الاحياء الشعبية و التجمعات الريفية”  على ان تسند مهمة انجاز هذه المشاريع الى الباعثين الخواص. الغرض من هذا الاقتراح هو خلق اسواق للباعثين العقاريين تمكنهم من الاستيلاء على جزء من موارد الميزانية في شكل ارباح.  و لم يكن الفصل 58 من مشروع قانون المالية لسنة 2018 إلا استجابة لمقترح منظمة الاعراف  اي ضمان ارباح للوبيات المضاربة في قطاع البعث العقاري  على حساب ميزانية الدولة اي على حساب دافعي الضرائب و هي مسالة ترتقي الى مستوى الفساد المقنن و التلاعب بالمال العام.

المستفيد الثاني من هذا الاجراء هي لوبيات المضاربة في القطاع البنكي، ذلك أن الكمبرادور المصرفي ، في ضل تراجع الاستثمار و الطلب على القروض خاصة في القطاعات المنتجة ، اصبح يتجه أكثر نحو قروض السكن و قروض الاستهلاك لتثمين موارده. حسب معطيات البنك المركزي، ارتفع حجم القروض البنكية الموجهة للعائلات من 3 مليار دينار سنة 1993 الى حوالي 21 مليار دينار سنة 2016  و بذلك ارتفعت نسبة القروض الموجهة للعائلات  (سكن، سيارات، استهلاك)  في مجموع القروض المسداة من طرف القطاع البنكي من 17 %  سنة 1993 الى حوالي 30 % سنة 2016. في المقابل و على سبيل المثال تراجعت حصة الفلاحة في مجموع القروض البنكية من 8،7 % سنة 1993 الى 3،2 % سنة 2106  كما تراجعت نسبة الصناعة من 43،4 % الى 25 % خلال نفس الفترة لترتفع نسبة القروض الموجهة للخدمات و العائلات أكثر من 70 % من مجموع القروض البنكية سنة 2016. يعود هذا التغيير في هيكلة القروض البنكية الى تراجع الاستثمار في قطاعي الصناعة و الفلاحة منذ دخول برنامج الاصلاحي الهيكلي حيز التنفيذ و فتح السوق الداخلية أمام الضائع المستوردة مما دفع الكمبرادور الطفيلي الى الهروب نحو القطاعات الاقل عرضة للمنافسة و هي اساسا التجارة و الخدمات. أمام تراجع الاستثمار في القطاعات المنتجة و تراجع الطلب على القروض  وجد الكمبرادور المصرفي الطفيلي الحل في توجيه قروضه أكثر نحو قطاعات المضاربة (التجارة و البعث العقاري) و العائلات (السيارات، السكن، الاستهلاك).  لكن يبدو ان هذه الالية قد بلغت حدودها نظرا للازمة التي يعيشها قطاع البعث العقاري و خاصة نظرا لان حجم التداين العائلي قد بلغ حدوده القصوى (900000 عائلة، حوالي 60 % من العائلات مدينة لدى البنوك فقط). لهذا لم يبقى من حل، للكمبرادور المصرفي، سوى تحويل ميزانية الدولة الى مجال لتثمين الموارد و لتحقيق الارباح  و في هذا الاطار يتنزل “برنامج المسكن الاول” في ميزانية 2017  و مقترح ” صندوق ضمان القروض السكنية” الوارد في مشروع قانون المالية لسنة 2018.

في الواقع ليست هذه المرة الاولى التي تمكَن فيها لوبيات المضاربة البنكية من الاثراء على حساب ميزانية الدولة. بتاريخ 13 أفريل 2016  صادقت الاغلبية البرلمانية اليمينية على القانون الاساسي للبنك المركزي ، هذا القانون الذي يمنع البنك المركزي من التمويل المباشر لميزانية الدولة (كما كان معمول به في السابق)  و يضع الحكومة أمام ضرورة الاقتراض من البنوك بنسب فائدة أكبر. وهو ما حدث فعلا  على اثر اجتماع مجلس ادارة البنك المركزي بتاريخ 30 مارس 2017 و الذي أقر امداد القطاع البنكي بسيولة اضافية تقدر بـ 2200 مليون دينار ليقرضها بدوره لميزانية الدولة  بفوائد اضافية تجاوزت 3%.  وفي مناسبة ثانية،  صادقت نفس الاغلبية البرلمانية اليمينية يوم 7/11/2017 على اتفاقية قرض بقيمة 250 مليون أورو  بين وزارة المالية وعدد من البنوك المحلية لتمويل ميزانية الدولة. هذه التي الاتفاقية بالإضافة الى نسب الفائدة المرتفعة تمكن ، عبر شرط تقييم القرض بالاورو ، لوبيات المضاربة البنكية من تحقيق ارباح اضافية مع الانزلاق المتواصل لقيمة الدينار و بالضرورة  تحمل كلفة هذا الانزلاق لميزانية الدولة.

هوامش و احالات

[i]  راجع بهذا الصدد مجموعة المقالات الواردة في كتاب ” الازمة الاقتصادية في تونس : ظرفية أم هيكلية” جمعية البحوث الاقتصادية و الاجتماعية محمد علي الحامي (ARAES) أفريل 2017

[ii]  وزارة المالية:  “مشروع قانون المالية التكميلي لسنة 2017 ”  10 أكتوبر 2017

[iii]  وزارة المالية  ” تقرير حول مشروع ميزانية الدولة لسنة 2018 ”  13 اكتوبر 2017

[iv]  قانون عدد 35 لسنة 2016 مؤرخ في 25 أفريل 2016 يتعلق بضبط النظام الأساسي للبنك المركزي التونسي

[v]  شفيق بن روين : “كيف يعتدي صندوق النقد الدولي على قيمة الدينار التونسي ؟” المرصد التونسي للاقتصاد.  ما وراء الارقام ، رقم 8 .                                                                                                  http://www.economie-tunisie.org/sites/default/files/20170823-da8-fmidevaluationdinar-ar-bap.pdf

[vi]  مصطفى الجويلي ” لماذا يدفع صندوق النقد الدولي نحو مزيد التخفيض من قيمة الدينار”  موقع نواة  21 افريل 2017

http://nawaat.org/portail/2017/04/21/لماذا-يدفع-صندوق-النقد-الدولي-نحو-مزيد

[vii]  مصطفى الجويلي “مشروع ميزانية 2017 : بين إملاءات المؤسسات المالية العالمية و ضغط لوبيات الفساد” http://mustaphajouili.blogspot.com/2016/11/2017.html

[viii]   حول رسالة النوايا و ما تضمنته من املاءات  راجع : مصطفى الجويلي “مبادرة الباجي قائد السبسي: تفاعلا مع أزمة قائمة أم استباقا لأزمة أعمق” 11 جوان 2016 .

http://mustaphajouili.blogspot.com/2016/06/blog-post.html

[ix]  وزارة التنمية و الاستثمار و التعاون الدولي                          Projet du Nouveau Code d’Investissement. Version                              préliminaire  du 25 mai 2015

[x]  مركز البحوث و الدراسات الاجتماعية 2016 : Protection sociale et économie informelle en Tunisie

http://www.cres.tn/uploads/tx_wdbiblio/Secteur_informel_Tunisie.pdf

[xi]  المعهد الوطني للإحصاء 2015 .                                   Fiche technique de l’indice des prix de l’immobilier                                                                                                                                                              http://www.ins.tn/fr/publication/fiche-technique-de-l%E2%80%99indice-des-prix-de-l%E2%80%99immobilier

[xii]  اتحاد الصناعة و التجارةPropositions de l’UTICA pour la loi des finances 2018, entre assainissement et relance, 25/09/2017  http://utica.org.tn/upload/1506357274.pdf

 


[1]
 راجع بهذا الصدد مجموعة المقالات الواردة في كتاب ” الازمة الاقتصادية في تونس : ظرفية أم هيكلية” جمعية البحوث الاقتصادية و الاجتماعية محمد علي الحامي (ARAES) أفريل 2017

[1]  وزارة المالية:  “مشروع قانون المالية التكميلي لسنة 2017 ”  10 أكتوبر 2017

[1]  وزارة المالية  ” تقرير حول مشروع ميزانية الدولة لسنة 2018 ”  13 اكتوبر 2017

[1]  قانون عدد 35 لسنة 2016 مؤرخ في 25 أفريل 2016 يتعلق بضبط النظام الأساسي للبنك المركزي التونسي

[1]  شفيق بن روين : “كيف يعتدي صندوق النقد الدولي على قيمة الدينار التونسي ؟” المرصد التونسي للاقتصاد.  ما وراء الارقام ، رقم 8 .                                                                                                  http://www.economie-tunisie.org/sites/default/files/20170823-da8-fmidevaluationdinar-ar-bap.pdf

[1]  مصطفى الجويلي ” لماذا يدفع صندوق النقد الدولي نحو مزيد التخفيض من قيمة الدينار”  موقع نواة  21 افريل 2017

http://nawaat.org/portail/2017/04/21/لماذا-يدفع-صندوق-النقد-الدولي-نحو-مزيد

[1]  مصطفى الجويلي “مشروع ميزانية 2017 : بين إملاءات المؤسسات المالية العالمية و ضغط لوبيات الفساد” http://mustaphajouili.blogspot.com/2016/11/2017.html

[1]   حول رسالة النوايا و ما تضمنته من املاءات  راجع : مصطفى الجويلي “مبادرة الباجي قائد السبسي: تفاعلا مع أزمة قائمة أم استباقا لأزمة أعمق” 11 جوان 2016 .

http://mustaphajouili.blogspot.com/2016/06/blog-post.html

[1]  وزارة التنمية و الاستثمار و التعاون الدولي                          Projet du Nouveau Code d’Investissement. Version                              préliminaire  du 25 mai 2015

[1]  مركز البحوث و الدراسات الاجتماعية 2016 : Protection sociale et économie informelle en Tunisie

http://www.cres.tn/uploads/tx_wdbiblio/Secteur_informel_Tunisie.pdf

[1]  المعهد الوطني للإحصاء 2015 .                                   Fiche technique de l’indice des prix de l’immobilier                                                                                                                                                              http://www.ins.tn/fr/publication/fiche-technique-de-l%E2%80%99indice-des-prix-de-l%E2%80%99immobilier

[1]  اتحاد الصناعة و التجارةPropositions de l’UTICA pour la loi des finances 2018, entre assainissement et relance, 25/09/2017  http://utica.org.tn/upload/1506357274.pdf

 

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !

2 Comments on “ميزانية 2018 : حربٌ على الشعب وانحيازٌ لِلُُّوبيات والمصالح الاستعمارية”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *