شريط “تُنسى كأنّكَ لمْ تكُن”: ذاكرة ثلاث سنوات من التشاؤل

 

سينما – خاصّ – مالك زغدودي 

يمثّل شريط “تُنسى كأنّك لم تكُنْ” لرضا التليلي رحلة ثلاث سنين من مواكبة حياة مجموعة شباب ثائر من مدينة سيدي على بن عون. وهي مدينة تتبع ولاية سيدي بوزيد، مهد الثورة التونسية، وإحدى المدن الساخنة المعروفة بمساهماتها في تأجيج الإحتجاجات  خلال الثورة التونسية وفي الأحداث الفارقة في تاريخ تونس المعاصر عموما.

وتشهد هذه المدينة حراك سياسي ونقابي متجذّر وقديم العهد. إذ يعيش بها العديد من مقاومي الاستعمار الفرنسي (الفلّاڨة)كما سيُظهر الفيلم. متابعة حياة مجموعة من الشباب، منذ سنة 2013 وصولا لسنة 2016 وما تحتويه حياتهم من متناقضات هذه الرحلة العجائبية التى تتلاعب بمشاعرنا، هي ما ستحملنا داخل أطوارها كاميرا رضا التليلي.

                                                                 لقطة من الفيلم

تبدأ الرحلة بمشاهد احتجاج لأصحاب الشهادات العليا المُعطَّلين عن العمل ومجموعة شباب مازال مشحونًا بالآمال المُعلَّقَة على الثورة من شغل وتحقيق الكرامة. هذا ما لمسناه من عفويّة المحتجّين. فينتقّل بنا المخرج في سرمديّة زمانية، إذ ينقلنا لحوار مع والد أحد المُعطَّلين وهو مناضل زمن الإستعمار حمل السلاح رفقة مصباح الجربوع وزميل آخر سمّاه بالصادق، وهو أصيل معتمدية وادي مليز بولاية جندوبة. هذا الرجل الضرير، الذي لم تهِبه الدولة ولا فلسًا واحدًا، كأنّه وهو يتذكّر رفاق الكفاح ضد الإستعمار يرسم خريطة تونس الدواخل التى كافحت من أجل الإستقلال ثم عاشت نوعا من الحيف على جميع المستويات.

أوسمة هذا المقاوم كثيرة: من وسام يخلد دوره في الكفاح المسلح، إلى وسام تكريم لمعركة أخرى خاضها وهي ملحمة الجلاء الخالدة. ينتهي هذا المشهد بقول ابنه المشحون بالتشاؤم والغضب على الدولة: “الأوسمة قالولك بِلّهم و أشرُب ماهم.”

قد تخوننا الذاكرة البصرية في ذكر المشاهد بدقّة، لكنّ أهمّها تلك التى يُستدعَى فيها نفس الشباب الثائر الذي كان يغنّي في ساحة القصبة ويتلحّف بصور البوعزيزي إلى مراكز الأمن وقاعات المحاكم على غرار الشابّ فريد سليماني والنقابي عبد السلام الحيدوري على خلفية تهمة التحريض على حرق مقرّات أمنية إبّان اغتيال الشهيد محمد البراهمي. بين كل هذا الغضب والإحتجاج شابٌّ بملامح أشبه بكهل في أواخر الأربعين يغنّي بين ثنايا تلك السنوات الثلاث. هذا الأخير المُكَنَّى بـ”الشافّ”، حارس دار ثقافة بأجر يقلّ عن مائة دينار، حسب ما كُتب في نهاية الفلم. هو يعشق المسرح ويمارس هوايته رفقة بعض الشباب الذين حضروا في مشاهد الفلم.

لافتة عن محاكمة شباب الحراك الثوري عام 2015

ورودٌ وسط الوادي والماء و سخرية وسخط وطالب دكتوراه يفتتح “نصبة” لبيع البريك. هو نفسه أسّس منظمّة بيع الشهائد العليا، نظرًا لكونها أصبحت مجرّد ورقة جوفاء خالية من كلّ قيمة… هذا التفاؤل أحيانا والتشاؤم أحيانا أخرى، الغضب والسخط أو محاولة التعويل، ولو بالقليل، على الذات، الإحتجاج و الصراخ والإجتماعات العامّة والمسرح وبعث الضحكة لدى الجمهور. هو معنى التشاؤل، تلك المنطقة الوسطى أو الحبل المُتَجاذَب بين الحالتيْن. منطقة الشبه شبه. هذه الكلمة المستحدَثة من الكاتب الفلسطيني إميل حبيبي في روايته “الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل”. والتى تحمل داخلها ثنائية الأمل واليأس. كذلك وجها من الأمل واليأس، وبطبيعتها بين حالتيْ التفاؤل والتشاؤم، هي ما عاشته الشخصيات الرئيسية للفلم الوثائقي، و ما عاشه الجمهور أيضا أثناء المتابعة.

أختم بما بدأ به مخرج الفلم رضا التليلي: “يجب دستَرة حقّ الحلم والشعور بالأمل”، لأنّ العفوية والصدق الذي يبعثه فيك الفلم يقدح تلك الشعلة من الحلم المتجدّد. كان فيلم رضا التليلي ذاكرة لا تُمحى. كائنة مصوَّرَة فلا تُنسى.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *