في معنى التّحيل : السّابع من الثّورة ينقلبُ إلى السّابع من نوفمبر

في أوائل 2011، كان الشّعار المركزي لكلّ الأطياف السياسية في تحركاتهم الميدانية في تونس هو” أوفياء ،أوفياء لدماء الشهداء “.

و نذكر جيدا مسيرة أعوان الداخلية في تلك الفترة رافعين أصواتهم “أبرياء، أبرياء من دماء الشهداء”.

نفسُ المشهد لم يختلف كثيرا ولم تتغير الأصوات ولا الهتافات في 14 جانفي 2018 :

أمهّات الشهداء، يُرافقهنّ الأهالي والجرحى والمُساندين، يهتفن بصوت واحد “يا شهيد إرتاح إرتاح سنواصل الكفاح” ثم مردّدات: “النهضة والنداء أعداء الشهداء”. الأمر الذي لم يرق لأنصار حركة النهضة فجُنّ جنونهم وهم المحتَجزون وراء الحاجز الحديدي الاختياري أين ارتضوا القيام باحتفالاتهم بالسابع من الثورة، في ذلك المكان دون حراك.

يُهرول بعضهم ليزيد في صوت مذياعهم ومكبّرات الصوت الصادحة بأهازيجهم وبإيقاعات أناشيدهم ونشاز “أولاد الجويني” المطبّلين من نظام إلى آخر، يتسلّق أحدهم شجرة مشيرا إلى عائلات الشهداء بعلامة صفر، وترفع الأخرى علم الحركة مرددة “أوفياء، أوفياء لدماء الشهداء “. يعتدي احدهم على الحاجة أمّ السعد منصري والدة الشهيد مجدي منصري وهو ينادي أنّ حركته وفيّة للدماء !

وفي نفس الإطار الاحتفاليّ بالسّابع من الثورة، يقرّر رئيس الجمهورية العفو عن عدد من مساجين الحق العام ومن بينهم قاتل شهداء دڨاش الطيّب العميمي الذي قتل الأمجد الحامي، عبد القادر المكي وماهر العبيدي. إذ أطلق عليهم الرصاص يوم 11 جانفي 2011 أثناء تنفيذ الأهالي لمسيرة سلمية ضد حكم بن علي، انطلقت من منطقة بوهلال الريفية وصولا إلى شوارع مدينة دڨاش. يُطلق سراحه ليخرج من السّجن بترقية: من ملازم أول إلى نقيب.

ولنا أن نتخيل المشهد سويّة: دماءُُ لم تنشف بعد، وأمهات تبحث عن الحقيقة، وجرحى تنبض قلوبهم حرية ومحرزية العبيدي فوق المنصة توّزع الابتسامات… ثمّ يعتدي أحدهم على الجرحى ويضرب بكل ما أوتي من قوة ودناءة و صفاقة. ولسخرية الأقدار فإنّ أمثال محرزية العبيدي وعبد الكريم الهاروني عادوا إلى تونس بعد استشهاد أكثر من ثلاثمائة شهيد، عادوا مردّدين بأنهم أوفياء صادقون :أوفياء للدم.

لقد كان مشهدا مثيرا للضحك حدّ البكاء.

جريح الثورة طارق الدزيري سيطرد من بيته، الذي كان في الأصل مقرا لحزب التجمع. ملّكه اياه المهدي جمعة في إطار تمليك عدد من الجرحى مساكن اجتماعية تتلاءم مع أوضاعهم الاجتماعية وحالتهم الصحية.

أمّا اليوم فإن بلدية الفحص قررت استرداد المقر ، من يدري ربما تهديه مقرا للنداء أو النهضة، فقد مرّ قانون المصالحة بسلام.

خالد بن نجمة وفؤاد العجيلي ووليد الكسراوي ونورة مرنيسي ومسلم قصد الله وطارق الدزيري، لم يحترم السبسي و أنصار الغنوشي جراحهم ولا أوجاع الحاجة أم السعد منصري ولا ابنة الشهيد الطاهر المرغني البالغة من العمر 14 سنة، والتي تعرضت بدورها للتعنيف من أبناء حركة النهضة أثناء مسيرة 14 جانفي.

كل ذلك التفنّن في الاعتداء المادي والمعنوي والتعنت في الاحتفال بطمس الحقيقة، رغم تصريحات الناطقة الرسمية باسم رئاسة الجمهورية سعيدة ڨراش ووزارة العدل أن الطيب العميمي غادر السجن بموجب سراح شرطي وليس عفو رئاسي. إلاّ أنّ عائلات الشهداء والمجتمع المدني بدقاش لم تنطل عليهم الرواية، فجدير بالذكر أن هذا القاتل تستّرت السلطات على مكانه حين كان في حالة فرار سنة 2011 ولم يجد علي المكي شقيق الشهيد عبد القادر المكي حلا غير أن يتفرغ بنفسه للبحث عن القاتل من مدينة إلى أخرى حتى وجده وبلّغ عنه السلطات المعنية، التي رفضت في البداية التدخل إلا بعد ضغط كبير.

ثم تعود العائلات مرة أخرى في 2012  لتعتصم يوم العيد أمام المحكمة العسكرية الابتدائية بصفاقس للمطالبة بالنظر في القضية وحثّ القضاء على عدم غلق ملفات الشهداء.

طالب أيضا محامو الأهالي في أكثر من مرافعة بمعاينة مسرح الجريمة، إلا أنّ المحكمة رفضت ذلك! ورغم توّفر كل الأدلة والمعطيات في تقارير اللجنة الوطنية لاستقصاء الحقائق حول التجاوزات والانتهاكات إلا أن القضاء وبقية السلط اختاروا منْحًا مغايرًا، ساعين إلى طمس الحقائق.

وقد صرّح علي المكي لموقع انحياز أنه لم يتفاجأ بما حصل خاصة وأنه على علم بلهث رئاسة الجمهورية منذ وصول السبسي إلى قرطاج ومحاولاته المتكررة للعفو على قاتل شهداء دڨاش، وهذا ليس بالغريب على شخص يكنُّ العداء للثورة ولدمائها.

في معنى التحيّل أن تعرف الحقيقة وتدّعي دعمها بشعار الصدق في القول والإخلاص في العمل وأوفياء صادقون، ثمّ تغتسل بالدماء مُطبّعا مع القتلة.

علي السرياطي، ورفيق القاسمي (حاج قاسم)، وعادل التيويري والطيب العميمي وغيرهم كثر ممن تستر عليهم الوزراء وممن اختفوا ذات جانفي 2011 مُعتقدين أنه لا مفرّ من المحاسبة، ها قد غادروا جحورهم وعادوا اليوم إلى مباشرة أعمالهم كأنّ شيئا لم يكن وكأنّ ثورة لم تمرّ من هنا. فقد تمّت عملية التّحيل بنجاح.

 

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *